وأجاب المؤلف: بمنع دعوى الإجماع ,لأن إسحاق بن راهوية أحد مجتهدي فقهائنا الأقدمين ,وهو سابق لابن المنذر , قال بجوازه , فامتنعت دعوى الإجماع ,وأمّا فقهاء العصر الحديث , فمجيزوا مثل هذا كثير ,و منهم علي الخفيف ,عبد الرحمن عيسى ,ومحمود عبد الحليم , وعبد الرحمن بن سعدي , وعبدا لله البسام , وأخبر المؤلف أن له في المسألة تأليفاً خلص فيه إلى بالجواز , لعدم خلافه النص والإجماع , ولما فيه من التيسير على المسلمين.
والإيراد الرابع: أن الضمان في التأمين وقع على أمرٍ مجهول قدرهُ , ,وغير واقع وقت التعاقد , وهذا مما تفسد به العقود.
وأجاب المؤلف: أن جمهور أهل العلم يجيزون ضمان المجهول والمعدوم , لأن مآله العلم إذا وقع والإلزام بأثر الضمان لا يتم إلا بوقوع مقتضاه ,ومتى وقع حصل العلم بمقداره , وممن نص على جواز ضمان المعدوم والمجهول: شيخ الإسلام ابن تيمية ,وابن القيم وغيرهما ,بل نقل شيخ الإسلام أنه رأي أكثر أهل العلم , منهم مالك وأبو حنيفة ,وأحمد.
ثم ذكر المؤلف رأيه في الموضوع , قائلاً:" وبعد فرأيي في أن موضوع التأمين موضوع ذو أهمية بالغة من حيث حصول البلوى به في غالب مجالات حياتنا , وأنه نازلة عصرية يجب تكثيف الجهود لبحثه من قطاعات علمية ومهنية مختلفة , ومن جهات ذات اختصاص وممن هم أهل لبحثه من حيث المقدرة الفقهية والتمكن الاقتصادي وبعد النظر من حيث التدبر والاعتبار والتصور والقدرة على تطبيق الأحداث والنوازل على أحكامها الشرعية , وأن يكون ذلك في محيط قواعد الإسلام العامة وثوابته الجلية وفي محيط التطبيقات الميدانية مع الأخذ في الاعتبار والنظر أن الأصل في المعاملات الإباحة استئناساً بقوله صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بشؤون دنياكم. وأن ما تتحقق به مصالح المسلمين وحفظ أموالهم أمر مشروع. مع التقيد بآداب النقاش والبحث عن الحقيقة بحيث يلتزم الباحث التجرد عن التعصب لقول معين حتى تظهر وجاهته واعتبار صحته انطلاقاً من مبدأ: الحكمة ضالة المؤمن. ومن مبدأ: الرجال يعرفون بالحق لا أن الحق يعرف بالرجال. واحتفظ برأيي في إعطاء الحكم على التأمين من حيث الإباحة أو التحريم حتى وقته المناسب.
الملاحظات: 1 - يعتبر الكتاب أولّ وجهة نظر مكتوبة من أحد أعضاء هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية , تذهب إلى عدم الفارق بين التأمين التعاوني (المتفق على إجازته) وبين التجاري الذي قد أجمع على تحريمه من قبل في المجامع الفقهية ولم يخالف أحدٌ من أعضاء المجمع الفقهي , بما فيهم الشيخ ابن منيع , إلاّ الشيخ مصطفى الزّرقا- يرحمه الله – ولذا أورد في المحاضرة كلمته على جهة التأييد لها الآن , حيث يقول العلاّمة الزرقا: " إن التمييز بين التأمين التجاري والتعاوني خرافة , وأنّ هذا التمييز الوهمي هو نتيجة عدم الإدراك لحقيقة التأمين وواقعها " انظر (ص19)
2 - ذكر المؤلف في ص10: أن أوّل من ذكر التأمين من الفقهاء ابن عابدين رحمه الله ,وأنه سئل عنه ,فأجاب بجوابٍ خلاصتهُ الكراهة.
وعند المراجعة يتبينُ أنّ المؤلف واهمُ في هذا , لأن ابن عابدين –يرحمه الله – ذكر الجواب عندما سُئل عن السوكرة ,وذلك في كتابه الحاشية " رد المحتار " , (3/ 249) , وخلص بعد تصوير المسألة إلى قوله " والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله , لأن هذا التزام ما لا يلزم " ا. هـ.
وقال المؤلف ص10:" إن الفتوى لم تكن مبنيّة على تأصيل وتعليل , بقدر ما كانت مبنيّة على الانطباع العام والمفاجأة بعرضه "
والناظر في فتوى ابن عابدين يجد فيها تعليلاً وميزاً للمسألة عن مسائل مشابهة لها في القياس , ولكنّ ابن عابدين أظهر الفرق بينهما –على ما يرى -: فالله الله بمراد المؤلف بهذه العبارة، ومن كان من أهل العناية بكتب الفقه - وعلى وجه الخصوص الحاشية - يعلم مدلول هذه العبارة، بل يعلم دقة ابن عابدين على وجه الخصوص في عباراته وتعبيره اللطيف عن مدارك المسائل الفقهية، وتأمل تعبيره بقوله " بدل الهالك من ماله " لتدرك دقة تخصيصه لمحل الحكم، على نحو لانجده في عبارات كثير ممن كتب في التأمين بلغة بعيدة عن لغة العلم، بل توظف لغة العلم بعيدا عن توظيفها الدقيق، ونحن لانتصور أن عبارة " لايحل " - على سبيل المثال - يمكن التعبير عنها ب " الكراهة " في اصطلاح الفقهاء بعد عصر السلف، للفارق بين مدلول التعبيرين الذي يدركه المبتدئ في سلم التعلم الفقهي.
3 - اعتنت وسائل الإعلام السعودية بهذه المحاضرة عناية فائقة مستغربة، على نحو غير معتاد في المحاضرات العامة، وأشاد بها كثير من الكتاب ممن ليس في العلم من قبيل ولادبير، إضافة إلى عناية متوقعة من شركات التأمين، وكل هذا يؤكد أن وسائل الإعلام لايمكن أن تكون أمينة في تقديم صورة صادقة عن الأحداث كما هي، بل الأمر يرجع لتقديرها فما ترى فيه أهمية أبرزته، وما تراه يخالفها أو يعارضها كتمته، وكم من ندوات علمية رصينة، ومؤتمرات عالمية تعقد لبحث مثل هذه المسائل ولاتسمع لها أثرا في وسائل الإعلام فأين الأمانة وحمل رسالة التوعية والتوجيه؟ ولايُفهم من هذا الكلام التهوين من قيمة هذا الكتاب وأنه لايستحق الاهتمام، بل هو كتاب مهم لما أشرنا إليه في الملاحظة الأولى، لكننا نتمنى أن تفسح وسائل الإعلام هذه صدرها لمن يخالفها في وجهات النظر خاصة وأن الموضوع موضوع علمي بحت.
المصدر: ثمرات المطابع.
¥