الحديث الأول: في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم المسلمين جرمًا من يسأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته). دل ذلك على أن الأشياء لا تحرم إلا بتحريم خاص، لقوله: لم يحرم، ودل أن التحريم قد يكون لأجل المسألة، فبين بذلك أنها بدون ذلك ليست محرمة، وهو المقصود.
الثاني: روى أبو داود في سننه عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه). فمنه دليلان:
أحدهما: أنه أفتى بالإطلاق فيه.
الثاني: قوله: (وما سكت عنه فهو مما عفا عنه)، نص في أن ما سكت عنه فلا إثم عليه فيه، وتسميته هذا عفوًا كأنه ـ والله أعلم ـ لأن التحليل هو الإذن في التناول بخطاب خاص، والتحريم المنع من التناول كذلك، والسكوت عنه لم يؤذن بخطاب يخصه، ولم يمنع منه، فيرجع إلى الأصل، وهو ألا عقاب إلا بعد الإرسال، وإذا لم يكن فيه عقاب، لم يكن محرما وفي السنة دلائل كثيرة على هذا الأصل.
الصنف الثالث: اتباع سبيل المؤمنين، وشهادة شهداء الله في أرضه الذين هم عدول الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، المعصومين من اجتماعهم على ضلالة، المفروض اتباعهم، وذلك أنى لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين: في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور. وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه، وأحسب بعضهم ذكر في ذلك الإجماع يقينا أو ظنا كاليقين.
فإن قيل: كيف يكون في ذلك إجماع، وقد علمت اختلاف الناس في الأعيان قبل مجيء الرسل، وإنزال الكتب، هل الأصل فيها الحظر أو الإباحة؟ أو لا يدرى ما الحكم فيها؟ أو أنه لا حكم لها أصلا؟ واستصحاب الحال دليل متبع، وأنه قد ذهب بعض من صنف في أصول الفقه من أصحابنا وغيرهم على أن حكم الأعيان الثابت لها قبل الشرع مستصحب بعد الشرع، وأن من قال: بأن الأصل في الأعيان الحظر استصحب هذا الحكم حتى يقوم دليل الحل.
فأقول: هذا قول متأخر لم يؤثر أصله عن أحد من السابقين. ممن له قدم، وذلك أنه قد ثبت أنها بعد مجىء الرسل على الإطلاق، وقد زال حكم ذلك الأصل بالأدلة السمعية التي ذكرتها، ولست أنكر أن بعض من لم يحط علما بمدارك الأحكام، ولم يؤت تمييزًا في مظان الاشتباه، ربما سحب ذيل ما قبل الشرع على ما بعده. إلا أن هذا غلط قبيح لو نبه له لتنبه مثل الغلط في الحساب لا يهتك حريم الإجماع، ولا يثلم سنن الاتباع.
ولقد اختلف الناس في تلك المسألة: هل هي جائزة أم ممتنعة؟ لأن الأرض لم تخل من نبى مرسل؛ إذ كان آدم نبيًا مكلمًا حسب اختلافهم في جواز خلو الأقطار عن حكم مشروع، وإن كان الصواب عندنا جوازه.
ومنهم من فرضها فيمن ولد بجزيرة، إلى غير ذلك من الكلام الذي يبين لك ألا عمل بها، وأنها نظر محض ليس فيه عمل. كالكلام في مبدأ اللغات وشبه ذلك، على أن الحق الذي لا راد له أن قبل الشرع لا تحليل ولا تحريم، فإذًا لا تحريم يستصحب ويستدام، فيبقى الآن كذلك، والمقصود خلوها عن المآثم والعقوبات.
وأما مسلك الاعتبار بالأشباه والنظائر واجتهاد الرأى في الأصول الجوامع، فمن وجوه كثيرة ننبه على بعضها.
أحدها: أن الله ـ سبحانه ـ خلق هذه الأشياء وجعل فيها للإنسان متاعا ومنفعة. ومنها ما قد يضطر إليه وهو ـ سبحانه ـ جواد ماجد كريم رحيم غنى صمد، والعلم بذلك يدل على العلم بأنه لا يعاقبه ولا يعذبه على مجرد استمتاعه بهذه الأشياء وهو المطلوب.
وثانيها: أنها منفعة خالية عن مضرة فكانت مباحة كسائر ما نص على تحليله، وهذا الوصف قد دل على تعلق الحكم به النص وهو قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157]، فكل ما نفع فهو طيب، وكل ما ضر فهو خبيث. والمناسبة الواضحة لكل ذي لب، أن النفع يناسب التحليل، والضرر يناسب التحريم والدوران، فإن التحريم يدور مع المضار وجودًا: في الميتة والدم ولحم الخنزير وذوات الأنياب والمخالب والخمر وغيرها مما يضر بأنفس الناس، وعدما: في الأنعام والألبان وغيرها.
¥