وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا
في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر
من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين:
- تارة من العلم بفساد قولهم.
- وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن، إما دليلاً على قولهم، أو جواباً
على المعارض لهم.
ومن هؤلاء من يكون حَسَن العبارة فصيحاً، ويدسُّ البِدَعَ في كلامه، وأكثر
الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يَرُوج على خَلْق كثير ممن
لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله. وقد رأيت من العلماء المفسرين
من يذكر في كتابه من تفسيرهم ما يوافق أصولَهم التي يَعْلَم أو يعتقد فسادها، ولا
يهتدي لذلك، ثم إنه لسبب تطرُّف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية، ثم
الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغُ من ذلك، وتفاقَمَ الأمر في الفلاسفة
والقرامطة والرافضة؛ فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالِمُ منها عجَبَه» [18].
والحاصل: أن من أعظم أسباب وقوع الاختلاف: البدع المضلة «التي
دَعَتْ أهلها إلى أن حرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعه، وفسَّروا كلام الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم بغير ما أُريد به، وتأوَّلُوه على غير تأويله؛ فمن أصول العلم بذلك: أن
يعلم الإنسان القول الذي خالفوه، وأنه الحق، وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف
تفسيرهم، وأن يعرفَ أن تفسيرهم محدَثٌ مبتدَع، ثم أن يعرف بالطرق المُفصَّلة
فسادَ تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق» [19].
وإذا كان منشأُ الخلافِ هو البدعَ المضلَّة، واتباع الأهواء فإنه لا اعتداد
بمخالفة من خالف لهذه العلة، قال الخبَّازي: «ولا يعتبرُ (أي في الإجماع)
مخالفة أهل الأهواء فيما نسبوا به إلى الهوى» [20].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم
في تفسير الآية قولٌ، وجاء قوم فسَّرُوا الآية بقولٍ آخرَ لأجل مذهب اعتقدوه وذلك
المذهبُ ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة
وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.
وفي الجملة: من عدلَ عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما
يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له
خطؤه» [21]، بل قال أيضاً: «من فسَّر القرآن أو الحديث أو تأوَّله على غير
التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مُفترٍ على الله، مُلْحدٌ في آيات الله،
محرفٌ للكلم عن مواضعه، وهذا فتحٌ لبابِ الزندقة والإلحاد، وهو معلوم
البطلان بالاضطرار من دين الإسلام» [22].
وقد أحسن الشاطبي رحمه الله حين بيَّن سبب عدم الاعتداد بأقوال أهل
الأهواء، فقال: «إذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حِرصاً على الغلبة
والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدَّى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء
لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق. وإذا
صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم يُنْتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة
الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء؛ فاتباع الهوى من حيث يظن
أنه اتباع للشرع ضلالٌ في الشرع؛ ولذلك سميت البدعُ ضلالات، وجاء أن «كل
بدعة ضلالة» [23]؛ لأن صاحبها مخطئٌ من حيث توهم أنه مصيبٌ. ودخولُ
الأهواء في الأعمال خفي؛ فأقوالُ أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر
في الشرع، فلا خلاف حينئذٍ في مسائل الشرع من هذه الجهة» [24].
فإن قيل: إن العلماء قد اعتدُّوا بخلافهم ونقلوا أقوالهم؛ فكيف يقال: إنه لا
اعتداد بخلافهم؟
وقد أجابَ عن هذا السؤال الإمام الشاطبي من جهتين:
أولاً: أنَّا لا نسلِّم أنهم اعتدُّوا بها، بل أتوا بها ليردوها، ويبينوا فسادها، كما
أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها.
ثانياً: إذا سُلِّم اعتدادُهم بها فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق، وإنما
المتبعُ للهوى بإطلاق من لم يصدِّق بالشريعة رأساً، أما من صدَّق بالشرع فإنه متبع
للشرع في الجملة، لكن إذا زاحم هواه الشرعَ قدم الهوى، فأصبح بذلك مشاركاً
لأهل الهوى في دخول الهوى نحلته، وشارك أهلَ الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه
¥