تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما ما نقله عن ابن القيم رحمة الله عليه في كتابه " إعلام الموقعين عن رب العالمين": من أن الفتوى تختلف باختلاف الأزمة والأمكنة والأحوال والعوائد، فإنه حق، لكنه يحتاج في تطبيقه إلى رجال لهم ملكة وقدم راسخ في العلم بمدارك الأحكام، وناقل كلامه نقل عدة أمثلة لهذا الأصل: منها قوله:إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو،ومنها أن عمر بن الخطاب أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة، ومنها أن طلاق الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.

فالجواب أن هذه من باب العقوبات الشرعية، فخفتها وغلظها وإقامتها وترك إقامتها أحياناً هو على حسب المصلحة، وبعضها أيضاً من (باب درء الحدود بالشبهات) والشريعة الكاملة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها،وتعطيل المفاسد وتقليلها، وارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أكملهما.

وهذا لون، والعبادات الشرعية المحدودة بأوقاتها وأمكنتها لون آخر، لا يجري فيها ذلك جريانه في العقوبات وما يلحق بها، فمثلاً الصلوات الخمس منها اثنتان لا يقدمان عن أوقاتهما بحال، وهما الظهر والمغرب، ومنها اثنتان لا تؤخران عن أوقاتهما بحال، وهما العصر والعشاء،وواحدة لا تقدم عن وقتها ولا تؤخر عنه بحال، وهي الفجر والإثنتان الأوليان اللتان لا تقدمان على أوقاتهما بحال يجوز تأخيرهما عن أوقاتهما في بعض الأحوال، والإثنتان اللتان لا تؤخران عن وقتهما بحال يجوز تقديمهما على أوقاتهما في بعض الأ؛ وال، ولو تحقق أول وقت العصر مهاجمة العدو الكفار المسلمين غروب الشمس المهاجمة التي يطول معها قتال المسلمين إياهم ويتمادى إلى غيبوبة الشفق أفيجوز أن تجمع المغرب إلى العصر جمع تقديم لهذا الفادح تعليلاً لوجود القتال، وكذلك إذا وقع مثل هذا بالنسبة إلى تقديم الفجر مع العشاء أو تأخير العشاء إليها،ومثل الظهر مع الفجر تقديماً أو تأخيراً، والفرق بين ما يصح فيه الجمع وبين مالا يصح سواء جمع تقديم أو جمع تأخير مجيء الشريعة المطهرة بالجمع فيما فيه الجمع وعدم مجيئها به في الجانب الآخر، وتسقط ههنا الآراء وما استند إليها من التعليلات التي الشريعة المحمدية بريئة من اعتبارها كل البراءة. فتقديم العبادة علىوقتها مبطل لها، وتأخيرها عن أوقاتها لا يكون كذلك في الجملة، وإنما يكون فاعل ذلك عاصياً.

وابن القيم رحمه الله لم يطلق، بل قيد اختلاف الفتوى بالنسبة إلى اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد. ولم يجمل، بل فصل في ذلك بما يزيل اللبس والاشتباه، فترك إقامة الحد في الغزو، وترك قطع يد السارق في المجاعة، وترك إنكار المنكر إذا أفضى إلى ما هو أنكر منه مقيد بهذه الأحوال مخصوص بها وبما يشبهها لا يسري إلى ما عداها بحال.

فمسألتنا وهي " مسألة تقديم الهدي، وأمثالها " ليست من العقوبات ونحوها في شيء، بل هي من العبادات المحضة، والعبادات توقيفية من حيث ذاتها، ومن حيث مواضعها وأوقاتها،ولو قيد من كتب في ذلك فتواه بحالة الذبح في هذه السنوات التي لا يوصل فيها إلى كمال عين الغرض المقصود لكان ذلك من باب حلول المشاكل التي منها ما يقبل ومنها مايرد، وحلول المشاكل شيء، وإطلاق الجواز من غير قيد شيء آخر، فإن هذه عبادة مؤقتة بتوقيتها الشرعي زماناً ومكاناً، كما جاء في الأحاديث التي أسلفنا.

تتمة

لقد انطلقت ألسنة كثير من المتعلمين، وجرت أقلام الأغبياء والعابثين، وطارت كل ماطار في الآفاق كلمات المتسرعين، واتخذت الكتابة في أحكام المناسك وغيرها تجربة لأقلام بعض، وجنوح الآخرين إلى ابراز مقتضى ما في ضمائرهم وأفهامهم، ومحبة آخرين لبيان الحق وهداية الخلق، لكنهم مع الأسف ليسوا من أهل هذا الشأن، ولا ممن يجري جواده في هذا الميدان، فنتج عن ذلك من القول على الله وعلى رسوله بغير علم وخرق سياج الشريعة مالا يسع أولي الأمر من الولاة والعلماء أن يتركوا لهم الحبل على الغارب، ولعمري لإن لم يضرب على أيدي هؤلاء بيد من حديد، وتوقف أقلامهم عن جريانها بالتهديد والتغليظ الأكيد، لتكونن العقبى التي لا تحمد، ولتأخذن في تماديها إلى أن تكون المناسك أُلعوبة للاعبين، ومعبثة للعابثين،ولتكونن بشائر بين المنافقين، ومطمعاً لأرباب الشهوات وسلماً لمن في قلوبهم زيغ من أرباب الشبهات، وفساداً فاشياً في تلك العبادات، ومصيبة لا يشبهها مصيبة، ومثار شرور شديدة عصيبة، وليقومن سوق غث الرخص، وليبلغن سيل الاختلاف في الدين والتفرق فيه الزبا.

ولربما يقول قائل: أليس كتاب الله العزيز فينا موجوداً، وحسام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بيننا محدوداً.

قيل: نعم. ولكن ماذا تغني السيوف المغمدة، ولم ينل الكتاب العزيز مغزاه ومقصده.

لقد اسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد

والله أعلم،وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

أملاه الفقير إلى ربه محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

حرر في 20/ 4/1386هـ (م. ويذكر مدير مكتبه الخاص أنها قد نشرت)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير