تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تجد متفقهين يفترض أنهم في أول الطريق، حدثاء الأسنان، وإن لم يكونوا حدثاء الأسنان فهم (حدثاء العقول) تجدهم يتعلمون أدوات الاجتهاد (أصول الفقه، أصول الحديث، تخريج الحديث، علم الرجال، أدلة الأحكام، التفسير، أصول التفسير ... ) قبل أن يتعلموا الفقهين: فقه التوحيد، وفقه الأحكام، مع أنهما واجبان ليس على كل متفقه فحسب، بل على كل قادر على التعلم، بينما (الاجتهاد) لا يجب على كل متفقه، بل لا يجوز أن يتصدى له أي متفقه حتى يكون أهلاً له، ولا يكون أهلاً له حتى يجتاز مراحل علمية، ويستوفي شرائط معينة لا يسقطها ضجر هؤلاء المتفقهين بها، لابد من ذلك وإن ضجر منه (حدثاء العقول).

بعض العلماء المعاصرين ممن لم تتحقق فيهم صفة (الكفاية)، أي الخبرة والحنكة، لا أقول بعالم السياسة فحسب، بل حتى بأصول التربية (الربانية)، الحنكة والخبرة بتدبير شئون المتفقهين، بعض هؤلاء العلماء يشجعون ظاهرة طلب الإمامة العلمية والجري وراءها من حدثاء الأسنان وحدثاء العقول تحت وهم أن ذلك يشجع على حرية التفكير.

منذ عام 1381 هـ رأيت ماذا صنع هذا المسلك، وعشت في داخله متأثراً حيناً، ومتفرجاً في أكثر الأحيان، وشاهدت بعيني ماذا فرخ لنا هذا الأسلوب في تعليم المتفقهين، فرخ لنا جيلاً جدلياً من الأئمة الصغار - صغار الأسنان أو صغار العقول - أتقنوا (الجدل) بدلاً من العلم، حتى إنهم كانوا يجتمعون حول (شيخ الحديث) في بعض الرحلات البرية يجادلونه طوال الليل حتى مطلع الفجر في مسائل معدودة لا يتجاوزونها، وأكثرها بينها الشيخ المذكور في كتبه التي صنفها، لكنهم لا يقرأون، لأن القضية عندهم لم تصبح قضية التعلم، وإنما هي شهوة الجدل. حضرت يوماً درساً فقهياً لأحد أفاضل العلماء، وكان من عادة ذلك الشيخ أن يخصص الوقت بعد صلاة العشاء للأسئلة، وتقدم فتى في سن (المراهقة) لم يخضرَّ شاربه بعد، وبين الأذان والإقامة لم يطق صبراً حتى يأتي وقت الأسئلة بعد صلاة العشاء، وحشر الفتى نفسه بين الصف حتى لاصق منكبي الشيخ، ثم سأل:

الفتى: هل تُشترط الطهارة لمس المصحف؟.

الشيخ: نعم.

الفتى: ما الدليل؟.

الشيخ: قوله تعالى: ((لا يمسه إلاَّ المُطَهَّرُونَ) وحديث:» ألا يمس المصحف إلا طاهر «.

الفتى:أما الآية فلا دليل فيها لأن المراد بها اللوح المحفوظ، وأما الحديث فالمراد به ألا يمسه إلا مسلم بدليل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن حمل المصحف إلى أرض العدو.

والتفت إليه الشيخ فإذا هو فتى حدث السن، فتبسم وقال له: ما الذي ترجح أنت؟.

الفتى: أنه لا تشترط الطهارة لمس المصحف.

الشيخ: أعمل بما ترجح لديك.

هذا الأسلوب في تربية الشباب المبتدئين كان يمكن أن يخرج علماء متحرري الفكر، لو كان أسلوباً صحيحاً سليماً، لكن التجربة التي شاهدتها بنفسي وعشت داخلها متفرجاً في أغلب الأحيان أثبتت أنه إنما يُفرَّخ (جدلِيين) بلا علم، وأحياناً يفرخ أدعياء مغرورين يملئون الدنيا ضجيجاً وجدالاً، وربما كتباً، كل ذلك بلا علم ذلك لأنه فتح باب الاجتهاد على مصراعيه فدخله كل من هب ودب، كأنما هي دعوة (الجَفَلَى) إلى الاجتهاد.

فكان من ظواهر هذا المسلك العجيب أمران عجيبان:

أولهما: أصبحت الساحة العلمية مباحة لكل من هب ودب، يصول فيها ويجول كل من اشتهى ولو لم يحمل سلاحاً ولا عدة، فإذا بنا نشاهد أطباء يفسرون القرآن، ومهندسين يصنفون في الحديث، بل وعمالاً ومهنيين عوام يقصدون للفتوى والتصنيف في الحلال والحرام، نعم إن تدبر القرآن والتفقه في الدين ليس محتكراً لطبقة من الناس، فلا (كهنوت) في الإسلام، تدبر القرآن والتفقه في الدين مطلوبان من كل مسلم، لكن هذا شيء والتصدر للفتوى والاجتهاد والتصنيف شيء آخر.

الفتوى والاجتهاد والتصنيف في علوم الشريعة كل ذلك (حكر) على أهله، وأهله هم كل من تحققت فيهم الأهلية (العلمية) حسبما يقرره أهل الاختصاص، وحسب الضوابط والقواعد التي اصطلحوا عليها، واستمر العمل بها إلى اليوم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير