من سورة النساء) قال: روى أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله: (إني راكب غداً إلى يهود، فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم). فيظهر هنا أنه نهاهم أن يبدؤوهم لأن السلام تأمين، وما كان يحب أن يؤمّنهم وهو غير أمين منهم، لما تكرر من غدرهم ونكثهم بالعهد … وقد نقل النووي في شرح مسلم جواز ابتدائهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز. قال: وهو وجه لأصحابنا. كما نقل عن الأوزاعي قوله: إن سلّمت فقد سلّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون. وقال - أي النووي -: حكى القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام للضرورة والحاجة أو لسبب، وهو قول علقمة والنخعي.
ونقل العسقلاني في فتح الباري الجزء الحادي عشر صفحة 33 عن ابن أبي شيبة عن طريق عون بن عبد الله عن محمد بن كعب أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال: نرد عليهم ولا نبدأهم. قال عون: فقلت له: كيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأساً أن نبدأهم. قلت: لم؟ قال: لقوله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام} [سورة الزخرف، الآية 89].
ث. وقد يقال هنا إن القاعدة الأصولية أن (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وأن لفظ (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام .. ) عام. وحتى لو صحّ أنه قيل في ظرف خاص هو نقض بني قريظة العهد ودخول الرسول معهم في حرب، إلاّ أنه يجب أن يؤخذ بعمومه وفق هذه القاعدة.
وهنا أشير إلى فائدة أصولية:
إن (السبب) في هذه القاعدة يعني، (المناسبة التي قيل فيها هذا اللفظ)، ولا يعني (السبب) الذي يكون علة للحكم.
فإذا كان السبب هو المناسبة التي قيل فيها النص، فالعبرة عند ذلك بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومثال ذلك حكم الأنفال، فهو نزل بمناسبة وقوع الخلاف بين الصحابة حول توزيعها. فهذا الحكم ليس خاصاً بأنفال بدر، ولو أنه نزل بسببها، لأن السبب هنا هو المناسبة التي قيل فيها النص.
أما إذا كان السبب هو علة الحكم - وليس المناسبة التي نزل فيها - فالقاعدة الأصولية الثابتة أن (الحكم يدور مع علته) وأنه إذا زال السبب زال حكمه. ومثال ذلك قول ابن القيّم: إن الكتابي إذا قال لك: (السلام عليكم ورحمة الله) فالعدل في التحية يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه، أي تقول له: (وعليكم والسلام ورحمة الله). ولا تكتفي بالقول (وعليكم) لأن هذا القول له سبب وهو أن اليهود كانوا يقولون للمسلمين (السام عليكم) فأمروا بالردّ عليهم بهذا النص (وعليكم). فإذا زال هذا السبب فقالوا: (السلام عليكم ورحمة الله) زال الحكم المذكور، ورجعنا إلى الحكم الأصلي. فالسبب هنا هو علة الحكم وليس فقط المناسبة التي نزل فيها.
3. في حديث أنس بن مالك أن النبي قال: (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه].
وفي رواية لمسلم وأبي داود أن أصحاب النبي قالوا له: (إن أهل الكتاب يسلّمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال: وعليكم).
وفي رواية للبخاري قال: مرّ يهودي برسول الله فقال: السام عليك. فقال الرسول: وعليك. ثم قال: أتدرون ماذا قال هذا؟ قال: السام عليك. قالوا يا رسول الله: ألا نقتله؟ قال: لا. إذا سلّم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم.
قال النووي في شرح هذا الحديث: اتفق العلماء على الردّ على أهل الكتاب إذا سلّموا. لكن لا يقال لهم وعليكم السلام، بل يقال عليكم فقط أو وعليكم.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن اليهود عندما قالوا لرسول الله السام عليكم قالت: السام عليكم يا إخوان القردة والخنازير ولعنة الله وغضبه. فقال لها الرسول: (يا عائشة: مه. لم يدخل الرفق في شيء إلاّ زانه، ولم ينزع من شيء إلاّ شانه).
نستخلص من هذه الروايات ما يلي:
1 - أن السلام كان معروفاً بين المسلمين واليهود ابتداءً ورداً باللفظ المعروف.
2 - أن اليهود حرّفوا كلمة (السلام) إلى (السام) وأصبحوا يبدؤون أو يردون بذلك.
3 - كان ردّ الفعل الطبيعي منع المسلمين من ابتدائهم بالسلام، ورد تحيّتهم بـ (وعليكم)، فإن ألقوا السلام ردّ عليهم بالسلام. وإن ألقوا السام ردّ عليهم بالسام.
¥