*ذهب جمهور الفقهاء، ومنهم الشّافعيّة والحنابلة، وهو أرجح القولين عند مالكٍ، وإحدى روايتين عن أبو يوسف إلى أنّ الأضحيّة سنّةٌ مؤكّدةٌ. وهذا قول أبي بكرٍ وعمر وبلالٍ وأبي مسعودٍ البدريّ وسويد بن غفلة وسعيد بن المسيّب وعطاءٍ وعلقمة والأسود وإسحاق وأبي ثورٍ وابن المنذر.
واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأدلّةٍ: منها قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمسّ من شعره ولا من بشره شيئاً». ووجه الدّلالة في هذا الحديث أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال: «وأراد أحدكم» فجعله مفوّضاً إلى إرادته، ولو كانت التّضحية واجبةً لاقتصر على قوله: «فلا يمسّ من شعره شيئاً حتّى يضحّي». ومنها أيضاً أنّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحّيان السّنة والسّنتين، مخافة أن يرى ذلك واجباً. وهذا الصّنيع منهما يدلّ على أنّهما علما من الرّسول صلى الله عليه وسلم عدم الوجوب، ولم يرو عن أحدٍ من الصّحابة خلاف ذلك.
* وذهب أبو حنيفة إلى أنّها واجبةٌ.
وهذا المذهب هو المرويّ عن محمّدٍ وزفر وإحدى الرّوايتين عن أبي يوسف. وبه قال ربيعة واللّيث بن سعدٍ والأوزاعيّ والثّوريّ ومالكٌ في أحد قوليه. واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى: {فصلّ لربّك وانحر} فقد قيل في تفسيره صلّ صلاة العيد وانحر البدن، ومطلق الأمر للوجوب، ومتى وجب على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجب على الأمّة لأنّه قدوتها. وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا»، وهذا كالوعيد على ترك التّضحية، والوعيد إنّما يكون على ترك الواجب. وبقوله عليه الصلاة والسلام: «من ذبح قبل الصّلاة فليذبح شاةً مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم اللّه»، فإنّه أمر بذبح الأضحيّة وبإعادتها إذا ذكّيت قبل الصّلاة، وذلك دليل الوجوب. ثمّ إنّ الحنفيّة القائلين بالوجوب يقولون: إنّها واجبةٌ عيناً على كلّ من وجدت فيه شرائط الوجوب. فالأضحيّة الواحدة كالشّاة وسبع البقرة وسبع البدنة إنّما تجزئ عن شخصٍ واحدٍ.
• وأمّا القائلون بالسّنّيّة فمنهم من يقول: إنّها سنّة عينٍ أيضاً، كالقول المرويّ عن أبي يوسف فعنده لا يجزئ الأضحيّة الواحدة عن الشّخص وأهل بيته أو غيرهم.
• ومنهم من يقول: إنّها سنّة عينٍ ولو حكماً، بمعنى أنّ كلّ واحدٍ مطالبٌ بها، وإذا فعلها واحدٌ بنيّة نفسه وحده لم تقع إلاّ عنه، وإذا فعلها بنيّة إشراك غيره في الثّواب، أو بنيّة كونها لغيره أسقطت الطّلب عمّن أشركهم أو أوقعها عنهم. وهذا رأي المالكيّة، وإيضاحه أنّ الشّخص إذا ضحّى ناوياً نفسه فقط سقط الطّلب عنه، وإذا ضحّى ناوياً نفسه وأبويه الفقيرين وأولاده الصّغار، وقعت التّضحية عنهم، ويجوز له أن يشرك غيره في الثّواب - قبل الذّبح - ولو كانوا أكثر من سبعةٍ بثلاث شرائط:
الأولى: أن يسكن معه.
الثّانية: أن يكون قريباً له وإن بعدت القرابة، أو زوجةً.
الثّالثة: أن ينفق على من يشركه وجوباً كأبويه وصغار ولده الفقراء، أو تبرّعاً كالأغنياء منهم وكعمٍّ وأخٍ وخالٍ. فإذا وجدت هذه الشّرائط سقط الطّلب عمّن أشركهم. وإذا ضحّى بشاةٍ أو غيرها ناوياً غيره فقط، ولو أكثر من سبعةٍ، من غير إشراك نفسه معهم سقط الطّلب عنهم بهذه التّضحية، وإن لم تتحقّق فيهم الشّرائط الثّلاث السّابقة. ولا بدّ في كلّ ذلك أن تكون الأضحيّة ملكاً خاصّاً للمضحّي، فلا يشاركوه فيها ولا في ثمنها، وإلاّ لم تجزئ، كما سيأتي في شرائط الصّحّة.
* ومن القائلين بالسّنّيّة من يجعلها سنّة عينٍ في حقّ المنفرد، وسنّة كفايةٍ في حقّ أهل البيت الواحد، وهذا رأي الشّافعيّة والحنابلة. فقد قالوا: إنّ الشّخص يضحّي بالأضحيّة الواحدة - ولو كانت شاةً - عن نفسه وأهل بيته.
وللشّافعيّة تفسيراتٌ متعدّدةٌ لأهل البيت الواحد والرّاجح تفسيران:
أحدهما: أنّ المقصود بهم من تلزم الشّخص نفقتهم، وهذا هو الّذي رجّحه الشّمس الرّمليّ في نهاية المحتاج.
¥