امتدح نفسَهُ بمدح غيره، وكفى بذلك ملامة أن يقال:» إنَّ هذا قد أثنى على نفسه. «لأنه ما ادّعى أحدٌ علمًا أو قصد ذلك بطريقة ماّ إلاَّ رُمِيَ بالجهل. ثمّ قال ابن عابدين:» فبادرتُ إلى التّوجّهِ والإقبال على الطّاعةِ والامتثال لسؤالهِ (أي المفتي)، بلا إهمالٍ ولا إمهال، فجمعتُ هذه الأوراق ... «إلى أن قال:» شَهِدَتْ بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِ المحتَرَمَةِ (الضمير راجع إلى الشيخ خالد)، عامّةُ أهل البلادِ من النّاس ... منهم مفتي الأنام في دمشق الشَّام، السّيد حسين أفندي ... إلخ. «وتفنّن ابن عابدين بعد ذلك في صياغة مدح هذا المفتي، ثمّ انتقل إلى سرد ما هو بصدده، فقال:» اعْلَمْ أنّي أُريد أن أكشفَ لك الغطا، وأنبِّهَكَ على بعضِ ما وقع في تلك الرسالة من الْخَطَا، لأَلاَّ تَزِلَّ بِكَ الْخُطىَ (بضمّ الخاء المعجمة، وهي جَمعُ خُطْوَةٍ)،
كُلُّ هَذِهِ الصِّيَغُ المسجَّعَةُ تدلّ على اهتمام ابن عابدين بالقشرِ وليس باللُّبِّ. إذْ نشاهد من خلال كلامه أنّه مفتتنٌ بزخارف القول ليسحر بها العقول وهو منهمك في الدّفاع عن خالد البغداديّ لسببٍ غيرِ شديدٍ، إذ ينقل من كلامِ الشخص الّذي نال من خالد، فَعَادَ يُهَاجَمُهُ بقولِهِ:
قال ذلك الزاعم المزاعم: (كلاهما اسم فاعل من أصل واحد، والموالاة دلالةٌ على التّشْديد). ومن جملة ما نقل ابنُ عابدين من كلام هذا الشخصِ الّذي لَمْ يُسَمِّهِ في البداية، يفيد: أنّ الشيخَ خالدًا يقوم بتسخير الجنِّ، ويستعين بالأرواح الأرضية الخبيثة، ويدّعي علمَ الغيبِ عن إخْبار الجانِّ له، ويدّعي أنّه قَتَلَ وَرَبَطَ كثيرًا من العفاريت والجانِّ، كلّ ذلك بإقراره مع أنّه يدّعي الولايةَ والإرشَادَ في الوقتِ نَفْسِهِ.
ثمّ يستطردُ هذا الشخصُ قائلاً:» فلمّا كان السُّؤَالُ متعلِّقًا برجُلٍ مُشَخَّصٍ مُعَيَّنٍ مذكورٍ باسمه، اقتضى التوقّف والتفحّص عن أحواله ليتحقّق عندي جميعُ ما في السّؤال ... «
فيدلّ كلامُ (هذا الشخص المجهولِ) الّذي استرسلَ فيه أنّه قد فَحَصَ وفتّشَ الأمرَ وَبَحَثَ، حتّى شهدتْ جماعةٌ بكلِّ ما قد سَجّله من أمر هذا الشيخِ، وذكر أسماء بعض المعروفين من هؤلاء الشهود، وهم: الشيخ إسماعيل النقشبندي، والشيخ أحمد علي آغازاده الكردي، والشريف أفندي الدياربكري.
كما أنّه بعد وصفِهِ أتباعَ الشيخ خالد بـ (الفرقة الخالدية الضَّالة المضلّة)، أضاف قائِلاً:» بِأنّه لم يُنْكِرْ ولم يَكْتُمْ أحدٌ من هؤُلاءِ ما نُقِلَ عن شيخهم؛ بل أقرّوا بِأنَّ الشيخَ خالدًا نفسهُ يفتخر بما يظهر منه من هذه الأمورِ ويعدُّهُ من جُملَةِ خوارِقِهِ وعلامةِ ولايتِهِ «.
ثمّ لخّصَ هذا الشخص مقالته فقال:» فَثَبَتَ عندي صدقُ ما في السؤالِ ( ... )، فبادرتُ إلى الجواب ( ... ) ومن كتم علمًا أُلجِمَ بلجَامٍ من النار. فأجبتُ متوكّلاً على الله التوّاب قائلاً بِأنّه ساحرٌ بِالإجماعِ. أي باتّفاق المحقّقين من علماءِ المذاهب الأربعةِ «.
قال ابن عابدين: هذا تصّ كلامِهِ. (ص/5)
...
بعد هذه النقولات، بدأ ابن عابدين بمعاتبة هذا الرجلِ ورميه بالتعسُّفِ والمجانبةِ عن طريق الإنصافِ من جهةٍ، كما وقف بجانب الشيخ خالد موقف المدافع المتحمّسِ المفتدي من جهةٍ أخرى.
ومن الغريب أن ابن عابدين الفقيه يعبّر عن فائِقِ إعجابِهِ بالشيخ خالد الصّوفيِّ بقوله:
» فإنّ الّذي شاهدناه من حالتِهِ البديعةِ ( ... ) إحْيَاؤُهُ بُقَعَ الْمَسَاجِدِ والخَلَوَاتِ بإقامة الأذْكَارِ والأورادِ والصّلواتِ ... إلخ. «كأنّ إحياء المساجد مقصورةٌ على صلوات الصوفيةِ وأورادِهِم وأذكارهم الّتي أكثرها مستحدثاتٌ وبِدَعٌ وحفلاَتٌ سرِّيَّةٌ وحلقاتٌ شيطانيةٌ وشطحاتٌ وخرافاتٌ إسرائيليةٌ وضجيجٌ ومبالغاتٌ وهذياناتٌ مستورثةٌ من البوذيةِ والمانويةِ والشامانيةِ وغيرها من الأديان الوثنيةِ ومن التيارات الفلسفيةِ. كلّها مخالفةٌ لأذكار رسول الله صلى اله عليه وسلم، وَمُنَافِيَةٌ لِمَجَالِسِهِ وأحوالهِ ومناسكهِ ونوافله الطيِّبةِ الشّريفةِ الثابتةِ في سنّتِهِ النّبوية الطاهرةِ البيضاءِ. ثمّ يدّعي ابن عابدين: أنّ هذا الشيخَ كان له بعض مريدين قد طردهم فتطاولوا عليهِ بالفريةِ. (س/6)
¥