أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ داوم على الرمي بعد الزوال في الأيام الثلاثة، ولو كان فعله لبيان سعة الوقت، لرمى في بعض الأيام بعد العصر، وفي بعضها عند المغرب، ولكن مداومته على الرمي بعد الزوال تدل على أن مقصوده ليس بيان سعة الوقت، إذ لو كان المقصود ذلك لفعله مرة ثم رجع إلي الأفضل، ولكن مداومته عليه تدل على أن هذا هو الواجب وأنه لا يجزئ الرمي قبله.
ثانياً: ـ
يطالب المجيز بالدليل، وهو معروف، فالدليل كما سبق أن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيان والبيان يتبع المبين في الحكم، وقد رمى في يوم العيد جمرة العقبة ضُحى، فكان هذا بيان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأذن للضعفة أن يرموها قبل ذلك، وهذا أيضا بيان، وكذلك ِفعله في أيام التشريق بيان لوقت الرمي في هذه الأيام، فكان كل رمي بحسبه، وقد سبق بحث مسألة البيان للمجمل.
ثالثاً: ـ
كيف يطالب المجيز بالدليل، لإثبات عدم الجواز، مع أن هذا خلاف القواعد، فالقواعد تقتضي أنه لا عبادة إلا بنص، وهذا يعني أن الأصل في العبادات المنع
حتى نجد دليلاً عليها، لا أننا نطالب بدليل على عدم مشروعيتها، ومع هذا فقد سبق الدليل على ذلك، وهو فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي في القواعد الفقهية: ـ
وليس مشروعاً من الأمور ... غير الذي في شرعنا مذكور
وقال في شرحها: ـ
(فإن الله خلق الخلق لعبادته، وبين في كتابه، وعلى لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العبادات التى يعبد بها، وأمر بإخلاصها له، فمن تقرب بها لله مخلصاً فعله فعمله مقبول، ومن تقرب لله في غيرها، فعمله مردود، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "
وصاحبه داخل في قول الله تعالى: ـ " أم لهم شركاؤ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ") ا. هـ
(7) من كان استناده إلى فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اليوم الثاني والثالث، مع إعراضه، وعدم نظره إلى فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اليوم الأول، وقوله لما سئل عن التقديم والتأخير: ـ "افعل ولا حرج " لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة في خاصة يوم العيد، من غير تأخير، كفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذلك الحلق والتقصير، على أنه لم يقل بذلك أحد ممن يعتد به.
والجواب في نقطتين: ـ
(1) أنه قد قام الدليل على عدم اختصاص يوم العيد بطواف الإفاضة، وقد دل على ذلك حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ـ " حاضت صفية بنت حُيي بعدما أفاضت، قالت: ـ فذكرت ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ـ " أحابستنا هي؟
قلت: يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، قال: ـ فلتنفر إذا "
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان سيجيز لها الجلوس حتى تطهر لطواف الإفاضة، وقد كان ذلك عندما عزم على السفر، وهذا لا شك في أنه كان بعد أيام التشريق، فدل هذا على عدم اختصاص طواف الإفاضة بيوم العيد، قال في بدائع الصنائع: ـ
" ولأنه لو توقت آخره، لسقط بمضي آخره كالوقوف بعرفة، فلما لم يسقط، دل على أنه لم يتوقت "
ثم إنه لم يقل أحد من العلماء بأن طواف الإفاضة لايجوز تأخيره عن يوم النحر، لأدلة كثيرة ليس هذا موضع استقصائها، لكننا سنشير إلى مذاهب العلماء في ذلك، إتماما للفائدة،على النحو التالي: ـ
1 ـ مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، أن آخر وقته هو آخر عمر الإنسان، ولا شيء عليه.
قال النووي: ـ
" يبقى مادام حيا ولا يلزمه بتأخيره دم "،
وقال في غاية المنتهى: ـ
" وإن أخره عن أيام منى، جاز ولا شيء فيه كالسعي "،
وقال في بدائع الصنائع: ـ
" ليس لآخره زمان معين موقت به فرضا، بل جميع الأيام والليالي وقته فرضا بلا خلاف بين أصحابنا "
2 ـ وقال أبو حنيفة: ـ إذا أخرالطواف عن أيام النحر فعليه دم، قال في بدائع الصنائع: ـ
" لكنه موقت بأيام النحر وجوبا في قول أبي حنيفة، حتى لو أخره عنها فعليه دم"
3 ـ ومذهب المالكية أنه يلزمه دم إذا أخره حتى يدخل المحرم، قال المواق: ـ
" وأما تحديد آخر وقته، فالمختار عند أصحابنا تمام الشهر، وعليه الدم بدخول المحرم "
¥