" (فإن تقرب به) أي قصد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القربة (ف) هو واجب علينا وعليه عند الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وأكثر أصحابه، وهو الصحيح عند الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ واختاره ابن السمعاني، وقال: هو أشبه بمذهب الشافعي"
وذهب جمهور المحققين إلى أننا نتوقف في الفعل المجرد عن القرينة حتى يقوم دليل على حكمه، قال ابن النجار: ـ
" وعنه ـ يعني الإمام أحمد ـ رواية ثالثة بالوقف، حتى يقوم دليل على حكمه، اختاره أبو الخطاب واكثر المتكلمين والأشعرية، وصححه القاضي أبو الطيب، وحكي عن جمهور المحققين "
والمقصود بالوقف هنا، هو عدم القطع بالوجوب أو بالندب أو بغيرهما من الأحكام، إلا مع وجود قرينة ترجح واحدا منها.
وعلى كلا القولين يكون رأي الجمهور هو الراجح، فسواء قلنا: ـ إن معتمد الجمهور في عدم جواز الرمي قبل الزوال هو فعل النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ والذي هو بيان للواجب وبيان الواجب يكون واجبا،
أو قلنا: ـ إن أفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحج لها حكم الفعل المجرد، لأن الفعل المجرد الأصل فيه الوجوب عند الجمهور، فيكون فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دالا على الوجوب بمجرده،
ومذهب جمهور المحققين، أن الأصل أننا لا نرجح كونه واجبا أو غير واجب إلا بقرينة، وقد دلت القرينة هنا على الوجوب، وإنما علمنا ذلك من تحري النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له ومداومته على ذلك ولو كان جائزاً قبل هذا الوقت لفعله ولو مرة لبيان الجواز، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما بين وقت رميها في يوم العيد.
ويمكن أن يرد على دليل الجمهور بما ذكرناه في أدلة المجيزين من إلزامات، وبأن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبيان أفعال الحج لا يدل على أكثر من المشروعية أو الندب، وقد سبق ذكر ذلك عندما تكلمنا عن البيان بالفعل، وذكرنا اختلاف العلماء في دلالته، وكان منها هذين الرأيين، وإن رجحنا الرأي القائل بالتوقف، و سنذكر بقية مايقوي هذا القول ـ إن شاء الله ـ عند ذكر معتمد المجيزين، وهو الآتي.
أما أدلة القول الثاني فنجد أنها تعتمد على أمور: ـ
الأول: ـ اعتبار أيام التشريق كاليوم الواحد، فيجوز رمي الجمار في أي وقت منها، وبناء على هذا كان رأي إمام الحرمين، أن رمي الجمار لليومين الأخيرين يمكن تقديمه إلى اليوم الأول.
الثاني: ـ حمل فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رميه الجمار أيام التشريق على الاستحباب، وقد مثلنا لهذا الحمل قبل ذلك، بمذهب الحنابلة في وقت بداية الوقوف بعرفة، ورأيهم في الأصل مبني على حمل فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على اختيار الأفضل، وهو عين الدليل الذي ذكره المجيزون للرمي قبل الزوال، وبهذا يندفع دليل الجمهور، لأنه مبني في الأصل على حمل فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الوجوب.
الثالث: ـ أن يوم العيد مع أيام التشريق الثلاثة تسمى جميعا أيام نحر، وبناء عليه يكون وقت رمي الجمار فيها واحدا، وهو جائز في يوم العيد قبل الزوال، فكذا بقية أيام النحر.
الرابع: ـ أن أفعال الحج مبنية على التخفيف ورفع الحرج، ومراعاة الزحام، بدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن قدم أو أخر عن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ـ " افعل ولا حرج "، وفي هذا بيان واضح للناس في أن أفعال الحج مبنية على التخفيف ورفع الحرج، وهذا هو عين السبب الذي به أجاز الحنفية الرمي قيل الزوال في يوم النفر، وقد سبق.
الخامس: ـ من خلال النظر في أفعال الحج، نجد أن كثيرا منها اختلف فيه العلماء، مابين قائل بالوجوب، وقائل بالسنية، رغم أنها جميعا خرجت مخرج البيان لآية الحج، ومنها مسائل تتصل بالجمار، وأخرى تتصل ببقية أحكام الحج، وهي إما مساوية لرمي الجمار من حيث الوجوب، وإما أن تكون أكثر منها أهمية كأن تكون ركنا، وسنضرب لذلك أمثلة: ـ
المثال الأول: ـ
اختلف الفقهاء في حكم ترتيب الجمرات الثلاث في الرمي، في أيام التشريق، على الوجه التالي: ـ
1 ــ ذهب المالكية والشافعية والحنابلة، إلى وجوب رمي الجمار الثلاث بالترتيب، الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى، فمن نكس أعاد مرتبا، لأن رميه غير مجزىء، قال العدوي الشهير بالدردير: ـ
¥