وأما شبهة عدم الوثوق بما يؤثر مذهبا للصحابة إذ لم يدون مذهبهم فأوهى من بيت العنكبوت لأن كلامنا فيما نقل عنهم في الكتب الموثوق بها المتداولة في الأيدي من كتب السنة والفقه لا سيما الصحيحان وكتب السنن فقد حفظت من الزيادة والنقص بقوة العناية بها شرحا وضبطا ووفرة النسخ المخطوطة المعلم عليها بسماعات الحفاظ في معظم المكتبات مما لا يوجد نظيره في كتب أئمة الفقه المشهورة مذاهبهم. ولا ريب أن ذلك من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قيض الله لسنته من حفظها كما فعل ذلك بتنزيله الكريم وله الحمد والمنة
على أن المعول عليه منذ انتشر التأليف والتصنيف هو النقل عن الموجود الذي تثق به النفس - سواء كان مقابلا كله على أصله أو لا - ما دام يغلب على الظن صحته ويطمئن له القلب هو المسمى بالوجادة. ولذا اعترض الإمام المقبلي في (العلم الشامخ) على تصريحهم بعدم اعتماد الوجادة بأن هذا يناقضه إذ هو - أي قولهم المذكور - وجادة ليس إلا. قال: وأما الوثوق فهو شرط في كل طريق اه
بل على الوجادة المذكورة اعتماد القضاة والمفتين
[63]
والمستنبطين إذ يتعذر إسناد كل كتاب إلى مؤلفه وضبطه عنه بالسماع والقراءة في كل الطبقات على أن كتب الحديث وجد فيها من الضبط والتلقي والشرح لها وتعداد نسخها المصححة تفاخرا بقراءتها وتشرفا بسماعها وتلقيها والإجازة لها ما لم يوجد عشر عشره في مؤلفات الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولو أريد نسخ كتاب من مؤلفات الأئمة أو طبعه يحول دون الظفر بنسخ كاملة منه ما يحول (1) ولا يرى غالبا بعد التنقيب أجزاء متفرقة أو نسخة مخرومة مع أن حق مقلدة أئمتها أن ينسخوا منها في كل قرن الألوف وأن يخدموها بالقراءة والإقراء والنشر والشروح. ولقد حرصت مرة على أن أظفر بنسخة مخطوطة من رسالة الإمام الشافعي أو بشرح لها لأقابل بها المطبوعة وأنسخ الشرح فلم أجد لها من أثر في مكتبة من مكاتب القطر الشامي أين هذا من نسخ كتب الصحيحين والسنن المخطوطة التي امتلأت منها مكاتب الدنيا ولا يعيى الظفر بجيداتها على طالب ما. أفليس الوثوق إذن بكتب السنة وما فيها من المرفوع والموقوف (وهو أقوال الصحب وفتاويهم) أقوى في النفس من غيرها؟ اللهم فبلى
المسح على الجوربين [جزء 1 - صفحة 64]
(1) وهذا ما وقع عند طبع كتاب (الأم) للشافعي فقد احتاجوا إلى جمع أجزائها من مختلف البلدان. وقس على كتاب الأم أمثاله من مؤلفات الأئمة
[64]
ومما يؤيد ما قدمناه في الوجادة ما في تدريب الراوي للسيوطي شرح تقريب النواوي في أواخر بحث الصحيح وعبارته (1): عن الإمام ابن برهان في الأوسط: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صح عنده النسخة جاز له العمل بها وإن لم يسمع
وحكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة وأنه لا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها. وقال إلكيا الطبري في تعليقه: من وجد حديثا في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال: وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والاستناد إليها لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبعد التدليس اه
فتأمل تظاهر أقوال الأئمة على اعتماد ما في كتب
المسح على الجوربين [جزء 1 - صفحة 65]
(1) ص 49
[65]
الفقه وغيرها تعلم أنه إذا وجد فيها نقل عن صحابي أو حكاية مذهب له أنه يوثق به ويعمل بلا ارتياب ويكون أولى من غره في باب التقليد لمن شاءه فافهم ولا تكن أسير التقليد
من روي عنه المسح على الجوربين من التابعين
لا يخفى أنه إذا لم يوجد في مسألة ما أثر مرفوع ولا موقوف ووجد للتابعين قول أو فتوى في شأنها كان ذلك مما يعتبر أو يؤثر لا سيما في باب تقليد الأعلم والأفضل عن المقلدة وقد روى محمد بن سعد (1) أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن: أرأيت ما تفتي به الناس أشيء سمعته أم رأيك؟ فقال الحسن: لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه ولكن رأينا لهم خير من رأيهم لأنفسهم. اه. (2)
¥