وبهذا يعلم أنّ التجربة تجري في المتماثلين والمتفقين في الحقيقة، كانبساط الفلز حينما تمسُّه النار، وهذا بخلاف الاستقراء، فإنّ مجراه الاَُمور المختلفة كاستقراء أنّ كل حيوان يتحرك فكه الاَسفل عند المضغ، فيتعلّق الاستقراء بمختلفي الحقيقة كالشاة والبقرة والاِبل.
وقد تكرر في كلام غير واحد من أصحاب المعاجم أن المَثَل والمثْل سيان، كالشَبَه والشبْه، ومع ذلك كلّه نرى أنّ القرآن ينفي المثْل لله، ويقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء) وفي الوقت نفسه يُثبت له المثَل، ويقول: (لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخرةِ مَثَلُ السَّوءِ وَللهِ المَثَلُ الاََعْلى وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيم). والجواب: أنّه لا منافاة بين نفي المِثْل لله واثبات المَثَل له؛ أمّا الاَوّل، فهو عبارة عن وجود فرد لواجب الوجود يشاركه في الماهية، ويخالفه في الخصوصيات، فهذا أمر محال ثبت امتناعه في محلّه، وأمّا المَثَلُ فهو نُعوت محمودة يُعرف بها الله سبحانه كأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعلى هذا، المَثَلُ في هذه الآية وما يشابهها بمعنى ما يوصف به الشيء ويعبَّر به عنه، من صفات وحالات وخصوصيات.
فهذه الآية تصرّح بأنّ عدم الاِيمان بالآخرة مبدأ لكثير من الصفات
القبيحة، ومصدر كل شر، وفي المقابل أنّ الاِيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كلّ خير وبركة، فكلّ وصف سوء وقبيح يلزم الاِنسان ويلحقه، فإنّما يأتيه من قبل عدم الاِيمان بالآخرة، كما أنّ كلّ وصف حسن يلزم الاِنسان ينشأ من الاِيمان بها، وبذلك ظهر معنى قوله: (لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مَثَل السَّوء) الذي يدلّ بالملازمة للذين يوَمنون بالآخرة لهم مثل الحسن.
وأمّا قوله سبحانه: (وَللهِ المَثَلُ الاََعلى) فمعناه أنّه منزّه من أن يوصف بصفات مذمومة وقبيحة كالظلم، قال سبحانه: (ولا يَظلم رَبُّك أَحداً). وفي الوقت نفسه فهو موصوف بصفات محمودة.
فكلّ وصف يستكرهه الطبع أو يردعه العقل فلا سبيل له إليه، فهو قدرة لا عجز فيها، وحياة لا موت معها إلى غير ذلك من الصفات الحميدة، بخلاف ما يقبله الطبع فهو موصوف به.
وقد أشار إلى ذلك في غير واحد من الآيات أيضاً، قال: (وَلَهُ المَثَلُ الاََعلى فِي السَّماواتِ وَالاََرْضِ) وقال: (لَهُ الاََسْماءُ الحُسْنى)، فالاَمثال منها دانية ومنها عالية فإنّما يثبت له العالي بل الاَعلى. ومنه يعلم أنّ الاَمثال إذا كان جمع مثْل ـ بالسكون ـ فالله سبحانه منزّه من المثْل والاَمثال، وأمّا إذا كان جمع مثَل ـ بالفتح ـ بمعنى الوصف الذي يحمد به سبحانه، فله الاَمثال العليا، والاَسماء الحسنى كما مرّ. f
2 ـ المَثَلَ في الاصطلاح h (http://www.alhikmeh.com/quran/b&m/amthal/blank.gif) المَثَلُ: قسم من الحكم، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.
فالكلمة الحكيمة على قسمين: سائر منتشر بين الناس ودارج على الاَلسن فهو المثل، وإلا فهي كلمة حكيمة لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة. فما ربما يقال: "المثل السائر" فالوصف قيد توضيحي لا احترازي، لاَنّ الانتشار والتداول داخل في مفهوم المثل. ولاَجل ذلك يقول الشاعر:
ما أنت إلا مثل سائريعرفه الجاهل والخابروأمّا تسمية ذلك الشيء بالمثال، فهو لاَجل المناسبة والمشابهة بين الموردين على وجه يُصبح مثالاً لكل ما هو على غراره.
قال ابن السكيت (المتوفّى عام 244هـ): المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شبّهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره. وبما ( http://www.alhikmeh.com/quran/b&m/amthal/blank.gif وبما) انّ وجه الشبه والمناسبة التي صارت سبباً لاِلقاء هذه الحكمة غير مختصة بمورد دون مورد، وإن وردت في مورد خاص يكون المثل آية وعلامة أو علماً للمناسبة الجامعة بين مصاديق مختلفة.
يقول المبرّد: فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الاَوّل، كقول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مَثَلاً وما مواعيدها إلاّ الاَباطيل
فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من
5ـالاَمثال القرآنية
¥