وهذه القاعدة أيضًا من القواعد المهمة في الفقه، لكن تنتظر حتى تفهم لمعرفة ما هو سبب العبادة؟ وما هو شرط وجوبها؟ وإليك البيان.
اعلم – رحمك الله تعالى – أن:
الشروط نوعان: شروط وجوب، وشروط صحة.
والمراد هنا: هو شروط الوجوب، أي الشيء الذي لا يتم وجوب العبادة إلا به،
- كالحنث لوجوب الكفارة: فالكفارة في اليمين لا تجب إلا بعد الحنث أي مخالفة مقتضى اليمين،
- وكذلك زهوق النفس لوجوب كفارة القتل: فكفارة القتل يشترط لوجوبها زهوق النفس وهكذا،
- فالشرط الذي تعنيه القاعدة: هو ما لا يتم الوجوب إلا به، لا ما لا يتم الواجب إلا به، فإنه قد تقرر في الأصول أن هناك فرق بين الوجوب والواجب، فشرط الوجوب هو الذي يخصنا في هذه القاعدة فإن شرط الواجب هو ما لا يصح الفعل إلا به، كالطهارة للصلاة والإسلام لصحة العبادات، لكن الفعل يجب بدونه فالصلاة تجب ولو لم يتطهر الإنسان، والعبادات تجب على الكافر ولو لم يسلم، لكن لا تصح الصلاة إلا بالطهارة ولا العبادات إلا بالإسلام، وأما شرط الوجوب فهو الذي لا يتم وجوب العبادة أصلاً إلا به، فإذا تخلف فإنه يتخلف وجوبها، وهذا واضح جداً، - وأما السبب الذي نعنيه هنا: فهو الذي يتوقف عليه جواز الفعل لا وجوبه، أي إذا تحقق فإنه يجوز الفعل لكن لا يجوز قبل تحققه كعقد اليمين فهو سبب انعقاد الكفارة، والجرح والموت هو سبب انعقاد الدية ودخول وقت الأولى من الصلاة المجموعة سبب لانعقاد فعل الثانية منهما، وهكذا، إذا علمت هذا فإن هذه القاعدة لا تدخل إلا في عبادة لها سبب وجوب وشرط وجوب، أما ما ليس له سبب وجوب فلا تدخل معنا كصيام شهر رمضان وصلاة الفريضة التي ليست بمجموعة إلى غيرها.
إذا علمت هذا فاعلم أن العبادة التي لها سبب وجوب وشرط وجوب لها ثلاث حالات:
1 - إما أن تفعل قبل سبب وجوبها، 2 - وإما أن تفعل بعد تحقق السبب لكن قبل شرط الوجوب، 3 - وإما أن تفعل بعد شرط الوجوب،
1 - فإذا فعلت قبل سبب الوجوب فإنها لا تصح؛ لأن وقتها بعد لم يتحقق فكأنه صلى الظهر قبل دخول وقتها، وذلك كمن أخرج الكفارة قبل عقد اليمين فإنها تكون صدقة وليست بكفارة،
2 - وأما إذا فعلت بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب فإن هذا الفعل جائز، كمن أخرج الكفارة بعد عقد اليمين وقبل الحنث،
3 - وأما إذا فعلها بعد شرط الوجوب فإنها تجب حينئذٍ كمن كفر بعد الحنث.
وإذا كانت القاعدة بهذا الشرح لازالت لم تفهم فهاك الفروع حتى تتضح أكثر:
فمن ذلك: كفارة اليمين هي عبادة لها سبب وجوب وشرط وجوب، فلا يجوز إخراج الكفارة قبل عقد اليمين؛ لأنه سبب وجوبها، ويجوز إخراجها بعد عقد اليمين وقبل الحنث لتحقق سبب وجوبها، ويجب إخراجها بعد الحنث؛ لأنه شرط وجوبها. وعلى ذلك قوله r : ( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) فهذا دليل على جواز إخراج الكفارة بعد عقدها وقبل الحنث خلافًا لمن منع ذلك.
ومنها: الصلاة المجموعة كالظهرين والعشائين، يصير وقتهما كالوقت الواحد كما هو معلوم عند الفقهاء، فدخول وقت الأولى منهما أعني الظهر أو المغرب سبب لوجوب فعل الثانية أعني العصر والعشاء، ودخول وقت الثانية شرط لوجوبها، إذًا لا يجوز فعل الصلاة الثانية قبل دخول وقت الأولى، ويجوز فعلها بعد دخول وقت الأولى لتحقق سبب وجوبها لكنها لا تجب، إلا إذا دخل وقتها فتجب حينئذٍ، والله أعلم.
ومنها: كفارة القتل لها سبب وجوب وشرط وجوب، فسبب وجوبها هو الجرح القاتل، وشرط وجوبها هو الزهوق أعني زهوق روح المجروح فعلى هذا، لا تصح الكفارة أعني كفارة القتل قبل الجرح؛ لأنه سبب وجوبها، ولا يصح فعل العبادة قبل سبب وجوبها، ويجوز إخراجها بعد الجرح وقبل الزهوق لتحقق سبب وجوبها، أما إذا زهقت النفس فتجب حينئذٍ 1، والله أعلم.
ومنها: الزكاة عبادة لها سبب وجوب وشرط وجوب، فسبب وجوبها هو تمام النصاب، وشرط وجوبها حولان الحول، فعلى هذا، فلا زكاة قبل تمام النصاب لعدم انعقاد سبب وجوبها، وتجوز بعد تمام النصاب وقبل حولان الحول، أما إذا حال الحول فتجب حينئذٍ، وهذه القاعدة تؤيد قول من قال بجواز تقديم الزكاة بعد تمام النصاب لعامٍ أو عامين، والله تعالى أعلى وأعلم.
ومنها: صلاة الجمعة لها سبب وجوب وشرط وجوب، فسبب وجوبها هو يومها وشرط وجوبها هو الزوال فلا يجوز فعلها قبل سبب وجوبها ويجوز بعده وتجب بعد الزوال، وهذا دليل 2 لمن قال بجواز فعلها قبل الزوال كما هو المذهب، ولكن في النفس من هذا الفرع شيء كبير فالله تعالى أعلم.
ومنها: الطهارة عبادة لها سبب وجوب وشرط وجوب، فسبب وجوبها الحدث وشرط وجوبها القيام إلى الصلاة فتجوز الطهارة بعد الحدث وقبل القيام إلى الصلاة وتجب عند إرادة القيام إلى الصلاة؛ لأنه شرط وجوبها، والله أعلم.
وأحسب أنه بهذه الفروع قد فهمت هذه القاعدة فهمًا جليًا وعليها فقس، لكن كما ذكرت سابقًا أن فهمهما متوقف على معرفة سبب الوجوب وشرط الوجوب، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
الهوامش:
1 لا إطعام في كفارة القتل على أرجح قولي العلماء لعدم ذكره في آية النساء وهو الشهور من المذهب فالتفريع على المرجوح، ويمكن إبدال إخراجها بفعلها أي الصيام.
2 هذا ليس دليلاً لأنه مبني على مذهب الذين يرون جواز إقامة الجمعة قبل الزوال لأدلة من السنة ينازع في مدلولات بعضها ويضعف بعضها، ومن أصح أدلتهم مع قوة سنده فعل ابن الزبير وقول ابن عباس أصاب السنة. حين صلى العيد يوم جمعة ولم يصل حتى العصر ففهم منه أنه قدم الجمعة واكتفى بها عن صلاة العيد. تراجع المسألة في نيل الأوطار.
¥