والربوية، مما يجعل المصارف الإسلامية عديمة الجدوى (1).
وعاد الخلاف إلى التلاعب بالألفاظ، لا الاستدلال بالأصول الشرعية.
فهل المشكلة في العمل بسد الذرائع، أم المشكلة في العمل بالمصالح الشرعية؟
ü أين تكمن المشكلة؟
الحقيقة أن المشكلة ليست في (سد الذرائع) وليست كذلك في (إعمال المصالح)، وكلاهما قاعدة شرعية قررتها أصول الشريعة، وعمل بها العلماء الراسخون.
ولكن المشكلة تكمن في تحديد المصطلح، ثم في التطبيق الخاطئ للقاعدة الشرعية، وأحياناً لا توجد مشكلة أصلاً؛ إذ المسألة لا تعدو أن تكون من الخلاف اللفظي، أو الخلاف السائغ.
وهذا الكلام ينطبق على أصول شرعية أخرى: كالعمل بالرأي والاستحسان واعتبار العرف.
فالعمل بالرأي نجد في كلام السلف ذمه ومدحه، ولكننا إذا حققنا كلامهم ـ كما فعل ابن القيم رحمه الله ـ (2) نجد أن الذم والمدح لم يردا مورداً واحداً.
فمن ذمه قصد به الرأي الفاسد المصادم للنصوص أو القول في الدين بالخَرْص (3) والظن مع التفريط في معرفة النصوص، ومن مدحه أراد به الرأي الصحيح الموافق للنصوص الشرعية، كآراء الصحابة، أو الآراء التي فيها تفسير النصوص، أو إعمال الرأي في المسألة عند عدم الدليل بعد بذل الجهد في البحث عنه.
وإذا تقرر ما سبق فإن من ذم الرأي كان مصيباً، ومن مدحه كان مصيباً، ولكن كلام هؤلاء وهؤلاء لم يرد مورداً واحداً، وعند تحرير المصطلح يتبين لنا أن الخلاف لفظي.
ومع اتفاقهم على هذا التأصيل إلا أنه وقع الخلاف بينهم في المسائل التي أعملوا فيها الرأي، إما لاشتراط أحدهم ما لم يشترطه الآخر، وإما لاختلاف أفهامهم أو اختلاف الظروف المحيطة بكل مسألة .. ، (4) فلو أخذنا ـ على سبيل المثال ـ مسألة من مسائل الفرائض وهي مسألة الجد والإخوة لوجدنا أن المسألة ليس فيها دليل قاطع، والصحابة عملوا فيها بالرأي مع اتفاقهم على حدود الرأي الذي يُعمل به، ومع ذلك اختلفوا في هذه المسألة؛فمنهم من عدّ الجد أباً وحرم الإِخوة من الميراث، ومنهم من شرَّك بين الإخوة والجد.
وكذلك إذا نظرنا إلى مسألة العمل بالاستحسان، فقد ردّه بعض الأئمة وشنَّع القول فيه، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرَّع. ومع ذلك نجد أن بعض الأئمة الكبار كأبي حنيفة يقول به، بل نجد في كلام من رده العمل به، ووُجد في كلام الإمام الشافعي نفسه الأخذ به، فهل اختلافهم حقيقي؟
عند إمعان النظر في كلامهم نجد أن من ردّه فإن كلامه يدور حول معنى من المعاني، وهو: العمل بالتشهِّي والهوى من غير دليل، وهذا لم يقل به أحد ممن يعتد بقوله لا أبو حنيفة ولا غيره، والأئمة ـ رحمهم الله ـ أجلّ من أن يقولوا بذلك، وكذلك من فسر الاستحسان على أنه دليل ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع التعبير عنه.
وأما من عمل به فقد أراد العدول عن الحكم أو الدليل إلى حكم أو دليل أوْلى منه، أو القول بأقوى الدليلين.
وهذا المعنى لا ينبغي أن يخالف فيه أحد، فعاد الخلاف إلى اللفظ لا إلى الحقيقة، وتبين أن الكلام لم يرد مورداً واحداً (5).
ولهذا قال أبو حامد الغزالي: «وردُّ الشيء قبل فهمه محال، فلا بد أولاً من فهم الاستحسان ... » (6).
وقال الشيرازي: (فإن كان مذهبهم على ما قال الكرخي «أي العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها لدليل يخصها» وعلى ما قال الآخر، وهو القول بأقوى الدليلين، فنحن نقول به، وارتفع الخلاف) (1).
وقال ابن قدامة: (فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى) (2).
وقال ابن السمعاني: (ذكر الأصحاب أن القول بالاستحسان في أحكام الدين فاسد .. وكذلك القول بالمصالح والذرائع والعادات من غير رجوع إلى دليل شرعي باطل .. ثم قال: واعلم أن مرجع الخلاف معهم في هذه المسألة إلى نفس التسمية، فإن الاستحسان على الوجه الذي ظنه بعض أصحابنا من مذهبهم لا يقولون به، والذي يقولونه لتفسير مذهبهم: أنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه؛ فهذا لا ننكره .. ) (3).
وعلى ذلك فلا يجوز للمفتي أو الباحث أن يترك هذه الأصول الشرعية؛ لأن فلاناً قال بها، أو لأن القائل بهذه المسألة هم من أصحاب التوجه الفلاني، بل على المفتي أن يصدع بالحق أياً كان، إذا كان يرى أن هذا هو الحق، وأن هذا الحق يجب قوله الآن.
¥