حتى لو كان الحق فيه تيسير على الناس؛ ففي عمل الناس آصار لم يأمر بها الله؛ فهل الشريعة جاءت بالحَرَج والأغلال والآصار حتى نمتنع عن قول الحق من أجل ذلك؟
وحتى ولو كان الحق مخالفاً لأهواء الناس وما أَلِفوه ولانت جلودهم له؛ إذ الشريعة لم تأتِ موافقة لأهواء الناس، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: 71].
ولنتخيل لو جاء أحد المفتين فقال بجواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، ودفع الزكاة للكفار دفعاً لأذاهم المتحقق عن المسلمين، وما موقف بعضهم لو سمع من يقول بعدم قتل بعض المنافقين والمرتدين لئلا يتحدث الناس أن (المسلمين) يقتلون أصحابهم، وما عمله لو عقد بعض الولاة صلحاً كصلح الحديبية، أو نهى عن سب آلهة المشركين لئلا يترتب على ذلك ضرر أكبر، أو امتنع عن إقامة حد السرقة لسبب شرعي مقبول ـ كما وقع عام الرمادة ـ أو أجاب دعوة لأحد قسس النصارى، أو سمح بإقامة بعض الأنشطة في المساجد ـ وإن كانت رياضية ـ كما فعل الحبشة في المسجد النبوي، أو اتبع الأعراف الدولية السائدة ـ التي لا تخالف أصول الشريعة ـ كما اتخذ النبي # خاتماً، وامتنع عن قتل الرسل، وأخبر أنه لو دُعي إلى الحلف الذي عُقد في بيت ابن جدعان ـ حلف لنصرة المظلوم ـ لأجاب، وخاطب هرقل بعظيم الروم، ألن يرمى هذا المفتي بالتساهل وتمييع الدين، والإعراض عن النصوص الشرعية؛ تمسكاً بالمصالح؟
وعلى النقيض لو قال أحد العلماء بتحريم بعض الألفاظ لئلا يتوهم منها معنى آخر (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ولو هدم مسجد ضرار كما هدم النبي # مسجد الضرار، أو أمر امرأة ـ حتى وإن كانت موثوقة ـ بعدم إلانة القول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، أو قطع شجرة أو هدم حجراً خوفاً من تبرك الناس به كما فعل عمر بشجرة الرضوان، أو منع من الحيل الربوية، ألن يوصف بالتشدد، واتخاذه لأكبر سد في العالم؟
بل لو تغير اجتهاده من وقت لآخر؛ لأنه أمعن النظر في المسألة مرة أخرى، كما تغير اجتهاد عمر بن الخطاب في مسألة الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم (المسألة اليَمِّيَّة أو الحمارية)، أو تغير اجتهاده بناء على تغير العلة التي بني عليها الحكم، كما منع عمر المسلمين عن القتال في البحر، لعدم خبرتهم به، ثم أقدموا عليه لما وُجِد في المسلمين ـ بعد عمر ـ من يستطيع القيام بذلك، لو تغير اجتهاده من أجل ذلك ألن يوصم بالتناقض؟
ومع ذلك فكل ما سبق وسائل شرعية لا يجوز لنا تركها؛ لأنه يوجد في الناس من يعيب ذلك، أو لأنه يوجد من يستخدمها استخداماً خاطئاً، أو يتخذها وسيلة لهواه؛ فقد يوجد من يريد تعطيل الحدود استناداً إلى عدم قتل النبي # للمنافقين، وترك عمر لحدِّ السرقة عام الرمادة، لكن ذلك لا يعني أن ننطلق إلى الجانب الآخر، فنحرم الاقتداء بالنبي # في هذا الأمر، وقد يوجد من يهدم المسجد؛ لأنه لا يوافق توجهه السياسي؛ ولأن المسجد لم يعد بوقاً له، لكن لا يعني ذلك عدم هدم مساجد الضرار، وقد يوجد من يريد إلغاء الولاء والبراء استناداً إلى ما سبق، لكن ذلك لا يعني أن نترك سُنَّة النبي # أو نظلم الكفار لكي لا نقع فيما وقع فيه.
وكذلك يوجد من يمنع المرأة من الحقوق المشروعة ظناً منه أن في ذلك صوناً للمجتمع من الفساد، ولكن ذلك لا يعني أن نجعل المرأة تعمل في كل مجال، وأن نترك الحبل على الغارب، لئلا نوصف بأننا متحجرون، وكذلك لا يمنعنا ذلك من أن ندعو إلى إنصاف المرأة وإعطائها حقوقها لئلا نوصف بأننا عصرانيون.
ü سد الذرائع:
المراد بسد الذرائع: أن يكون الفعل غير محرَّم، ولكنه يوصِل إلى المحرَّم. يقول القرافي مبيناً معنى سد الذرائع: «حسمُ مادة وسائل الفساد دفعاً لها؛ فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور ... » (4).
الاستدلال لمسألة سد الذرائع (5):
من الأدلة على العمل بسد الذرائع قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
[الأنعام: 108].
فسبُّ آلهة المشركين ليس محرماً في ذاته، وإنما هو محرم لما يفضي إليه.
¥