وأما علة الحديث الثالثة عنده فهي: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو ذاته لم يصم هذه الأيام من شوال. وهل يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أمته بما فيه معنى القربى إلى الله ثم هو ذاته لا يفعلها.؟!! ما صامها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يصمها أحد من بعده في عهد الصحابة ولا عهد التابعين حتى قال الإمام مالك (ثم أورد كلامه). والجواب عليه من وجوه:
الأول: أين الدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون لم يصوموا هذه الأيام؟
هل جاء بالإسناد الصحيح عنهم أنهم تركوا صيام هذه الأيام؟! حتى يزعم ما ذكر، لأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم.
وأما الاحتجاج بقول مالك (ولم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها .. الخ) فهذا على حد علمه، وإلا قد نقل الترمذي وغيره عن جماعة من السلف أنهم استحبوا صيامها ككعب الأحبار وابن عباس وطاووس والشعبي وميمون بن مهران وبعدهم ابن المبارك والشافعي وأحمد وغيرهم، فليس قول مالك بأولى من قول غيره، ثم إن المثبت مقدم على النافي كما لا يخفى.
الثاني: أن مالكاً رد الحديث بعدم عمل أهل العلم _ والمقصودون هم أهل المدينة _ وما قاله ليس بصحيح، لأن المعول هو على صحة الحديث، وقد صح كما سبق، ثم إن الحديث قد عمل به جماعة من أهل العلم كما سبق. قال ابن القيم: (وكون أهل المدينة في زمن مالك لم يعملوا به لا يوجب ترك الأمة كلهم له، وقد عمل به أحمد والشافعي وابن المبارك وغيرهم). وقال النووي في المجموع (6/ 437): (وأما قول مالك (لم أر أحداً يصومها) فليس بحجة في الكراهة، لأن السنة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم ير لم يضر).وبنحوه قال الشوكاني في نيل الأوطار (4/ 322).
وقد اعتذر بعض علماء المالكية عن عدم عمل مالك بالحديث بأعذار متعددة:
_ فمنهم من قال بأنه كره صومها لئلا يظن وجوبها، وقد رد هذه العلة جماعة من أهل العلم كالنووي في شرح مسلم (8/ 56) وفي المجموع (6/ 437) والشوكاني في نيل الأوطار (4/ 322) والصنعاني في سبل السلام (2/ 167) وغيرهم، قال الشوكاني في النيل: (واستدلا (أي أبوحنيفة ومالك) على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها، وهو باطل لا يليق بعاقل فضلا عن عالم نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، وأيضا يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها ولا قائل به).
_ ومنهم من قال بأنه كره صومها خوفاً من إلحاقها برمضان، ولذلك نص القرافي في الذخيرة (2/ 350) وابن شاس في عقد الجواهر الثمينة (1/ 369) _وهما من المالكية_ على أن مالكاً يستحب صيامها في غير شوال، وإنما عينها الشرع في شوال للخفة على المكلف بسبب قربه من الصوم.
ولذا قال مطرف: كان مالك يصومها في خاصة نفسه!
_ وما أحسن ما قاله أبوعمر ابن عبدالبر في الاستذكار (3/ 380): (لم يبلغ مالكاً حديث أبي أيوب، على أنه حديث مدني! والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة، وكان - رحمه الله - متحفظاً كثير الاحتياط للدين). ثم قال أيضاً: (وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان - رضي الله عنه - فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله .. ).
وانظر أخي القارئ _ رعاك الله _ إلى إنصاف الإمام ابن عبدالبر _ وهو مالكي _، وكذا فعل مثله أيضاً جماعة من المالكية _ منهم ابن رشد في بداية المجتهد (2/ 600) _ فإنهم صرحوا بثبوت الحديث وبالعمل به، وهذا من الإنصاف الذي يجب أن يتحلى به طلاب العلم جميعاً، فهل يكون الكاتب (جميل خياط) منصفاً مثلهم؟!
أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه: هشام بن عبدالعزيز الحلاف
المحاضر بقسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى
ـ[أبو إبراهيم الحائلي]ــــــــ[11 - 11 - 06, 10:22 ص]ـ
كثرت العجائب!