تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

التعريف والتنكير من الظواهر السياقية التي تقتضيها أحوال المخاطبين، ويقصدها المتكلم تبعا لمعنى أراده في نفسه اقتضى أيّاً من التعريف أو التنكير، ولكل منهما أغراض بلاغية متعددة، وإن مجئ لفظ ما من ألفاظ القرآن معرفاً تارة، ومنكّراً تارة أخرى لم يكن قط مصادفة عبثية –تعالى الله وكلامه عن ذلك-، إنما جئ به مرة على حالة، وأخرى على أخرى لنكتة ما متعلقة بالسياق الذي ورد فيه هذا اللفظ أو ذاك، ولا شك أن هذا النوع من المباحث البلاغية ملحوظ في تفسير أبي السعود، ومنه ما جاء في تفسير قول الله تعالى: ”أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ“ (البقرة: 5)، حيث طفق القاضي أبو السعود يكشف عن السر الذي لأجله نكرت كلمة "هدى" في النص المذكور، فيقول: "وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير لكمال تفخيمه، كأنه قيل: على أيّ هدىً لا يبلغ كنهه، ولا يقادر قدره" (1) ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=57#_ftn14).

هذا مثال في أسرار التنكير، ولا نتعدى تفسير ذات الآية حتى يتحفنا أبو السعود بمثال يبين فيه ما في التعريف من فوائد ومعان بلاغية خاصة به، ففي فاصلة الآية جاء لفظ "المفلحون" معرفا كما هو واضح، فما السر في ذلك؟ يقول رحمه الله:

"وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم" (( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=57#_ftn15)1). وفي قول الله سبحانه: ”مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ“ (البقرة: 17. (

يتكلم عن اشتقاق كلمة النار، ومعنى استيقادها ثم يبين سبب تنكيرها، ويقرر أن التنكير للتفخيم (( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=57#_ftn16)2)، وهذا بالطبع معنى يناسب السياق، إذ المقصود بالنار التي استوقدها المنافقون ما أظهروه من إيمان على قول، أو ما أضاء لهم في بعض اللحظات من إشراقات إيمانية على قول آخر (( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=57#_ftn17)3)، وعلى أيهما فإن المقصود من تفخيم النار بتنكير لفظها، هو الإشارة إلى أنها نار ضخمة، عظيمة القدر، كانت كفيلة بأن تضئ لهم طريقهم، وتنقذهم من ظلمات الضلال؛ إلا أنها ما لبثت أن انطفأت، فانكفئوا خاسرين.

وعندما فسر قوله سبحانه: ”وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ“ (البقرة: 96 (، أخذ أبو السعود في الكشف عن السر المترتب على تنكير لفظ "حياة" الوارد في الآية الكريمة، فقال: "والتنكير في قوله تعالى: (على حياة) للإيذان بأن مرادهم نوع خاص منها؛ وهي الحياة المتطاولة .. " (( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=57#_ftn18)4).

وعبارة أبي السعود السالفة هي ذاتها عبارة الزمخشري في كشافه، أما ابن عاشور فقد قال في سر التنكير في لفظ "حياة" ما نصه: "ونكر الحياة قصدا للتنويع، أي كيفما كانت تلك الحياة .. " (( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=57#_ftn19)1).

ولا تعارض في ما ذكروه، فكون اليهود –الذين تصفهم الآية- حريصون على حياة طويلة يقتضي كون تلك الحياة التي لا يهم فيها إلا أنها طويلة؛ حياة رخيصة ذليلة.

هذا، وفي ما ذكر من الأمثلة ما يصور اهتمام أبي السعود البالغ بإظهار إعجاز الأسلوب القرآني، مبينا أن اللفظ القرآني متى جاء معرفاً أو منكراً كل قد جاء بليغاً معجزاً في موضعه.

المبحث الرابع: الإظهار والإضمار

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير