وقد اختلف العلماء في حكمه: فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أجازه مطلقاً، والصحيح ـ والله تعالى أعلم ـ التفصيل في ذلك، وهذا هو الذي أقرَّه مجمع الفقه الإسلامي (7)، وهو جواز التلفيق إلا أنه يكون ممنوعاً في الأحوال التالية:
1 ـ إذا أدَّى ذلك إلى الأخذ بالرُّخص الممنوعة، كـ: تلفيق الشاعر «أبو نواس» في أبياته المشهورة، حيث زعم أن الإمام أبا حنيفة النّعمان قد أباح النبيذ، والشافعي قال: النبيذ والخمر شيء واحد، فلفّق من القولين قولاً نتيجته إباحة الخمر (8).
2 ـ إذا أدَّى التلفيق إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=74439) درءاً للفوضى.
3 ـ إذا أدَّى إلى نقض ما عمل به تقليداً في واقعة واحدة (9).
4 ـ إذا أدَّى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه (10).
5 ـ إذا أدَّى إلى حالة مركبة لا يقرُّها أحد من المجتهدين، كمن تزوج امرأة بلا ولي ولا شهود، مقلّداً الإمام أبا حنيفة في عدم اشتراط الولاية، ومقلّداً الإمام مالكاً ـ في رواية له ـ في عدم اشتراط الشهادة بذاتها، ويكفي إعلان الزواج.
فهذا الزواج غير صحيح؛ لأنه لا يجيزه الإمام أبو حنيفة ولا الإمام مالك على هذه الصورة الملفّقة؛ لأنه تولّد منه قول آخر مخالف لرأي هؤلاء العلماء على كيفية لا يصححونها، ولا يصح أيضاً؛ لأنه مخالف للأدلة الصحيحة الواردة في هذه المسألة، ولأن الأصل في الأبضاع (الفروج) التحريم، ولا شك أن فيه تلاعباً بالشريعة وخروجاً عن مقاصدها (1).
وبعد أن تبين لنا مفهوم التلفيق وحكمه نستطيع أن نبين الفرق بين التلفيق الممنوع وتتبُّع الرُّخص، فبينهما فروق من نواحي عديدة، منها (2):
1 ـ أن التلفيق جمع بين أقوال العلماء وتصرف فيها بقول لا يصححه أحد من المجتهدين، وقد ينتج عن ذلك إحداث قول جديد في المسألة لم يقل به مجتهد، بينما الأخذ بالرُّخص ليس فيه إحداث قول جديد، وإنما يأخذ برخصة قالها أحد العلماء.
2 ـ أن التلفيق قد يؤدي إلى مخالفة إجماع العلماء؛ بخلاف تتبُّع الرُّخص، فإنه يكون بأخذ قول أحد من العلماء.
رابعاً: حكم الأخذ بالرُّخص:
حديثنا في ذلك يأتي على نوعين:
الأول: حكم الأخذ بالرُّخص الشرعية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
الثاني: حكم الأخذ برخص الفقهاء والعلماء التي من آرائهم واجتهاداتهم المخالفة للأدلة.
فإذا كان الأخذ والعمل برخص الشارع فإن جمهور العلماء (3) يرون أن الرُّخصة الشرعية تأتي على أنواع، منها (4):
ـ الرُّخصة الواجبة: كأكل الميتة للمضطر.
ـ الرُّخصة المندوبة: كالقصر في الصلاة في السفر إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
ـ الرُّخصة المباحة: كالسَّلَم (5)، والتكلّم بكلمة الكفر عند الإكراه مع طمأنينة القلب.
قال في شرح مختصر الروضة: (والرُّخصة قد تجب، كأكل الميتة عند الضرورة، وقد لا تجب ككلمة الكفر) (6).
ـ الرُّخصة التي على خلاف الأولى: ومثّلوا لها بفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 184].
أما بالنسبة إلى النوع الآخر وهو حكم أخذ المكلّف برخص العلماء وزلاتهم والانتقاء من أقوالهم الأيسر والأخف في بعض أقوالهم المخالفة للأدلة النقلية الصحيحة فهو مما نقل تحريمه بالإجماع كما نقل ذلك غير واحد من أهل العلم كابن حزم وابن عبد البر والباجي وابن الصلاح وغيرهم (7).
ولأجل هذا فقد جاءت عبارات العلماء شديدة في النهي عن فعل ذلك ومشنعة على من فعلها، مثل: قول الإمام الأوزاعي: (من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام) (8). وقول سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله) (9)، إلى غير ذلك من الأقوال التي تبين مدى خطورة العمل بهذه الرُّخص التي يؤدِّي العمل بها إلى آثار ونتائج معارضة لأصل الشريعة كما سنبينه في العنصر التالي، علماً أن هذا الحكم خاص فيمن تتبَّع الرُّخص لمجرّد اتِّباع الهوى، أو بحث عن الحكم الأسهل، أو حاول الإعراض أو التجاهل للأدلة، أما إذا كان غير ذلك فقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي الأخذ بالرُّخص بمراعاة الضوابط الشرعية التالية (10):
1 ـ أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعاً ولم توصف بأنها من شواذّ الأقوال.
¥