تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وعند التأمل فإنه لا يوجد بين الصلاة في السفينة والصلاة في الطائرة فرق مؤثر يوجب اختلافهما في الحكم، والمقرر في علم الأصول أن الأصل إذا لم يكن بينه وبين الفرع فارق مؤثر اتحدا في الحكم، وهو ما يسميه الأصوليون بالقياس في معنى الأصل أو الجمع بنفي الفارق ([8])، ومثاله: قياس البول في إناء وصبه في الماء الراكد على البول فيه في المنع بجامع أن لا فارق بينهما في مقصود المنع الثابت بالحديث الوارد في النهي أن يبال في الماء الراكد ([9]).

وأما كون الطائرة تجري في الهواء والسفينة تجري على الماء فلا يعتبر هذا فارقًا مؤثرًا، فالماء كما أنه جِرمٌ فإن الهواء أيضًا يعتبر جِرمًا كما هو مقرر لدى المتكلمين والحكماء، قال الأصفهاني معرفًا إياه في شرح الطوالع: "جِرمٌ خفيف مضاف، أي ينحو جهة الفوق" ([10])، وهذا هو المدرك بالحواس وشواهده كثيرة كما في قربة تملأ هواء، فلو لم يكن الهواء جرمًا ما شغل حيزا من الفراغ.

وكذلك يمكن قياس الصلاة في الطائرة على الصلاة في الأرجوحة بجامع أن كليهما معلق في الهواء ولو في الصورة.

وقد نص فقهاء الشافعية على صحة الصلاة في الأرجوحة ([11])، قال الرملي في النهاية: " (ولو صلى) شخص (فرضًا) عينيًا أو غيره (على دابة واستقبل) القبلة (وأتم ركوعه وسجوده) وبقية أركانه بأن كان في نحو هودج (وهي واقفة) وإن لم تكن معقولة ([12]) أو كان على سرير يمشي به رجال أو في زورق أو أرجوحة معلقة بحبال (جاز) لاستقرار ذلك في نفسه" اهـ ([13])

وهذا التعليل الأخير مُطَّرِد في الطائرة، فالبقعة التي يصلي عليها المصلي في الطائرة مستقرة في نفسها، واستقرار المصلي عليها وتمكينه لأعضاء سجوده من الأرض حاصل بلا إشكال، فتصح الصلاة فيها كما صحت في الزورق والأرجوحة، وبهذا أيضًا يندفع إيراد أن الطائرة لا تكون ساكنة مستقرة حال طيرانها، فهي وإن كانت غير مستقرة أو ساكنة في الظاهر إلا أن محل الصلاة مستقر في نفسه، كما أن عدم السكون والاستقرار هذا هو في السفينة أظهر؛ لأنها أكثر عرضة للاضطراب والأمواج، فإذا صحت فيها مع هذا فلأن تصح في الطائرة أولى، طالما أن المصلي قد استوفى شرائط الصلاة وأتم أركانها.

وكذلك يمكن قياس الصلاة في الطائرة على الصلاة في السرير المحمول، ويشتركان في أن كلا منهما صلاة على سطح متحرك، وقد نص الفقهاء على صحة الصلاة في السرير المحمول، ونحوه كالمِحَفَّة ([14]) والمَحمِل ([15]).

قال الإمام النووي: "فإن صلى كذلك في سرير يحمله رجال .. ففي صحة فريضته وجهان، الأصح: الصحة كالسفينة، وبه قطع القاضي أبو الطيب فقال في باب موقف الإمام والمأموم، قال أصحابنا: لو كان يصلي على سرير فحمله رجال وساروا به صحت صلاته ([16]).

وفي شرح منتهى الإرادات من كتب الحنابلة: " (ومن أتى بكل فرض وشرط) لمكتوبة, أو نافلة (وصلى عليها) أي: الراحلة (أو) صلى (بسفينة ونحوها) كالمحفة (سائرة, أو واقفة, ولو بلا عذر) من مرض , أو نحو مطر, أو مع إمكان خروج من نحو سفينة (صحت) صلاته لاستيفائها ما يعتبر لها" ([17]).

والأقيسة السابقة وإن كانت في بعضها على أمور مختلف فيها، فإن هذا الصنيع شائع عند الفقهاء، وهو اختيار بعض الأصوليين -من أنه لا يشترط أن يكون الأصل المقيس عليه محل إجماع أو اتفاق بين الأمة- ومن هؤلاء الإمام أبو إسحق الشيرازي صاحب المهذب، قال الإمام النووي في شرح المهذب: "المصنِّف –أي الشيرازي- اختار في أصول الفقه أن القياس على المختلف فيه جائز , فإن منع الخصم الأصل أثبته القايس بدليله الخاص , ثم ألحق به الفرع , وقد أكثر المصنف في المهذب من القياس على المختلف فيه , وكله خارج على هذه القاعدة" اهـ ([18])

ولو أنا حصرنا القياس في أصل مجمع عليه بين الأمة لأفضى ذلك إلى خلو كثير من الوقائع عن الأحكام لقلة القواطع وندرة مثل هذا القياس، فيكفي أن يكون الأصل ثابتًا بدليل يغلب على الظن ([19]).

فإن قيل: إن الصلاة في الطائرة غير صحيحة؛ لأن المصلي لا يستقبل القبلة لارتفاعه وعلوه عنها فضلًا عن عدم معرفته لجهة القبلة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير