القول الثاني: إنه إذا كانت المزني بها غير حامل، صح العقد عليها من غير الزاني ومن الزاني، وأنها لا تعقد، وذلك اتفاقًا في مذهب الحنفية، فإن نكحها الزاني نفسه حل له وطؤها عند الحنفية اتفاقًا، والولد له إن جاءت به بعد النكاح لستة أشهر، فلو كان لأقل من ذلك لا يثبت النسب، ولا يرث منه، إلا أن يقول: هذا الولد مني، ولا يقول من الزنا، وأما إن كانت المزني بها حاملاً، جاز نكاحها عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن لا يطأها حتى تضع ().
القول الثالث: إن الزانية لا يجوز نكاحها، وعليها العدة من وطء الزنا بالإقرار إن كانت حاملاً، ووضع الحمل إن كانت حاملاً، فإن كانت ذات زوج حرم عليه وطؤها حتى تنقضي عدتها بالإقرار أو الحمل، وهذا قول ربيعة والثوري والأوزاعي وإسحاق، وهو مذهب المالكية والحنابلة (). وتستبرأ عند المالكية بثلاث حيضات، أو بمضي ثلاثة أشهر (). وعند الإمام أحمد أنها تستبرأ بثلاث حيضات، ورأي ابن قدامة: أن يكفي استبراؤها بحيضة واحدة، وهو ما أيده ابن تيمية ونصره بقوة. واشترط الحنابلة شرطًا آخر لحل زواج بالزانية، وهو توبتها من الزنا ().
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول، وهم الشافعية بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: ? وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ? [النساء: من الآية24] فهي على عمومها في العفيفة والزانية ().
مناقشة هذا الاستدلال:
إن عموم الآية يخصصه آيات وأحاديث أخرى حرمت نكاح الزانية. وأما اعتبار الحديث نصًا في عدم تحريم الزنا للنكاح، فإن النص عند الأصوليين، هو اللفظ الذي يدل على معناه المقصود أصالة من سوقه مع احتمال التأويل (). فهل سيق هذا الحديث على معناه المقصود أصالة؟ ليس هناك دليل على ذلك.
ثانيًا: أنه منتشر في الصحابة بالإجماع، فقد روي ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وجابر رضي الله عنهم، فقد روي عن أبي بكر قوله: "إذا زنى رجل بامرأة لم يحرم عليه نكاحها" ().
مناقشة هذا الدليل:
ادعاء الإجماع يحتاج لاستقصاء أقوال وفتاوى الصحابة، وهو ادعاء غير صحيح؛ لأنه وردت عن بعض الصحابة ما يخالف ذلك، بل وردت روايات مرفوعة إلى الرسول ? منها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: (الزاني مجلود لا ينكح إلا مثله) (). وقد قال عنه ابن حجر: "رجاله ثقات" (). وهذا الوصف خرج مخرج الغالب باعتبار من ظهر منه الزنا، وفيه دليل على أنه لا يحل للمرأة أن تتزوج من ظهر منه الزنا، وكذلك لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنا ()، ويدل على ذلك قوله تعالى: ?الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ? [النور:3]. فإنه صريح في التحريم ().
واستدل الحنفية على مذهبهم بحل نكاح الزانية بأدلة الشافعية المتقدمة، وأما دليلهم على منع وطئها حتى تضع إن حملت من غيره: فحديث رويفع بن ثابت الأنصاري قال: قال رسول الله ?: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره) (). يعني تحريم وطء الحبالي (). ولأن حرمة الوطء كانت لعارض يحتمل الزوال، لا يستلزم فساد النكاح كما في حالة الحيض والنفاس ().
واستدل المالكية على أنه لا يجوز نكاح الزانية ولو من الزاني بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدًا".
ولأن النكاح له حرمة، ومن حرمته ألا يُصب على ماء السفاح، فيختلط الحرام بالحلال، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة ().
واستدل الحنابلة على مذهبهم بما يلي:
1 - حديث أبي سعيد الخدري ورفعه، أنه قال في سبايا أوطاس: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) (). وهذا عام يشمل كل الحوامل ().
2 - حديث أبي الدرداء، عن النبي ?: "أنه أتى بامرأة تحج على باب فسطاط. فقال: (لعله يريد أن يلم بها؟)، فقالوا: نعم فقال رسول الله ?: (لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبره. كيف يورّثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ ") (). فقد شنع الرسول ? على من نكح حاملاً، فلا يجوز نكاح الحامل.
3 - لأن العدة في الأصل لمعرفة براءة الرحم، ولأنها قبل العدة يحتمل أن تكون حاملاً، فيكون نكاحها باطلاً، فلم يصح كالموطوءة بشبهة ().
واستدلوا على اشتراطهم التوبة بما يلي:
¥