و لكنهم اختلفوا في المراد بالحائض؛ فبينما قال بعضهم – و منهم الإمام ابن خزيمة رحمه الله -: أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أراد بالمرأة التي قرنها بالكلب الأسود و الحمار و أعْلَمَ أنها تقطع الصلاة؛ الحائض دون الطاهر.
قال آخرون - و منهم الشيخ الألباني رحمه الله -: أن المراد بالحائض هنا إنما هي المرأة البالغة فهو كالحديث الآخر «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار». و حجته: أنّ التفريق بين المرأة الطاهرة و غير الطاهرة - أي الحائض - أمر عسير يبعد تكليف الناس بمثله فتأمل!.اهـ
قلت: كلام الشيخ الألباني رحمه الله - من حيث الإستدلال - يحتاج إلى نظر؛ ذلك أن الأصل في (الحائض) لغة و شرعا و عرفا: هي المرأة أثناء عادتها. و لا يصرف هذا المعنى عن حقيقته إلا بقرينة، كما هو الحال في حديث «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» إذ أن القرينة الصارفة عن الحقيقة إلى المجاز، هي عدم صحة صلاة الحائض بخمار و بغيره.
و أمّا قوله: " أن التفريق بين المرأة الطاهرة و الحائض أمر عسير يبعد تكليف الناس بمثله ". فجوابه: أن يقال كذلك الشأن بالنسبة للتفريق بين البالغة و غيرها عند الفتيات. و يبدو لي - و الله أعلم - أنّ مراد الشارع الحضّ و التأكيد على اتخاذ السترة و الدنوّ منها. كما ورد في حديث سهل بن أبي حثمة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته ".
أخرجه أحمد (16134) و عبد بن حميد (447) و الشافعي في " السنن " (184) و ابن أبى شيبة (2874) و أبو داود (695) و النسائي (748) و ابن خزيمة (803) و ابن حبان (2373) و ابن قانع (1/ 269) و الحاكم (922) و قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي. و الطبراني (5624) و البيهقي (3289)
فإذا كان أمر التفريق بين الحائض و الطاهرة عسيرًا، فإن معرفة مرور الشيطان بين يدي المصلي أعسر، بل هو غير ممكن، قال الله تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).
و التكليف ههنا موجه لجهتين؛ للمصلي بأمره بإقامة سترة و الدنوّ منها، و مدافعة من يريد أن يجتازها. و للمارّ بزجره عن انتهاك حرمة المصلي.
كما يشكل على كلام ابن خزيمة رحمه الله ما اعترضتْ به عائشة رضي الله عنها، إذ لو كان الحكم متعلقا بالحائض غير الطاهرة، لما كان لكلامها معنى. فظاهر كلامها - من خلال ردة فعلها - يدل على أن المراد بالمرأة في الحديث الطاهرة و غير الطاهرة.
و يشكل، من جهة أخرى، على كلام الشيخ الألباني رحمه الله ما اعترض به ابن عباس رضي الله عنهما بذكر الجاريتين؛ حيث ظاهره يدل على أن الحكم يعم البالغة و الجارية. و هذا المعنى يؤيد تأويل بعض العلماء من أن المراد في حديث " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " غير ظاهره؛ قال في " المصباح المنير " (2/ 498): و قوله: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» ليس المراد مَن هي حائض حالة التلبس بالصلاة، لأن الصلاة حرام عليها حينئذ. و ليس المراد المرأة البالغة أيضا؛ فإنه يفهم أن الصغيرة تصح صلاتها مكشوفة الرأس! و ليس كذلك، بل المراد مجاز اللفظ و المعنى: جنس من تحيض بالغة كانت أو غير بالغة. فكأنه قال: لا يقبل الله صلاة أنثى!.اهـ
قلت: و يبدو أن هذا أيضا ما فهمه الإمام الشافعي رحمه الله حيث اعترض على من قال بالقطع، فقال: " ... لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى، و عائشة بينه و بين القبلة، و صلى و هو حامل أمامة، يضعها في السجود، و يرفعها في القيام! و لو كان ذلك يقطع صلاته، لم يفعل واحدا من الأمرين ".اهـ
الوقفة الثانية:
مع قوله " أن المراد بالقطع هنا: البطلان ". و هو منازَع بقول عامة الأمة سلفًا و خلفًا. قال ابن عبد البر في " التمهيد " (21/ 170): لا يجب أن يحكم بقطع الصلاة لشيء من الأشياء إلا بما لا تنازع فيه، و قد تعارضت الآثار في هذا الباب و اضطربت، و الأصل أن الحكم لا يجب إلا بيقين.اهـ
قلت: و استدل بعضهم على أن المراد بالقطع البطلان بما ورد من حديث أبي ذر رضي الله عنه، في بعض طرقه، و لفظه:
" تعاد الصلاة من ممر الحمار و المرأة و الكلب الأسود ".
¥