قال النووي رحمه الله تعالى: "في هذه الأحاديث بيان هذه السنة الواضحة، وهو موافق لما تظاهرت عليه دلائل الشرع من استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام، وفيه أن الأيمن في الشراب ونحوه يقدم وإن كان صغيرًا أو مفضولاً؛ لأن رسول الله {قدم الأعرابي والغلام على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف" (44).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث أن سنة الشرب العامة تقديم الأيمن في كل موطن، وأن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه؛ بل لمعنى في جهة اليمين وهو فضلها على اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحاً لمن هو على اليمين، بل هو ترجيح لجهته" (45).
تاسعاً: الساقي يشرب أخيراً: من يسقي يؤخر شربه إلى أن يشرب آخرُ من في المجلس؛ لما صح عن النبي {أنه قال: "ساقي القوم آخرهم شربًا" رواه مسلم (46).
عاشراً: تغطية الأواني: السنة أن تغطى أواني الأكل والشرب؛ لئلا يسقط فيها شيء، قال النبي {: "غطوا الإناء، وأوكوا السقاء؛ فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباءٌ لا يمر بإناءٍ ليس عليه غطاء، أو سقاءٍ ليس عليه وكاءٌ إلا نزل فيه من ذلك الوباء" رواه الشيخان واللفظ لمسلم.
وفي لفظ آخر لمسلم: "غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج؛ فإن الشيطان لا يَحُلُ سقاءً، ولا يفتح بابًًا، ولا يكشف إناءً" (47).
الحادي عشر: تحريم الشرب والأكل في أواني الذهب والفضة: لا يجوز الشربُ ولا الأكل في آنية الذهب والفضة، فمن فعل ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم (48)، ومن شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة كما صح ذلك عن رسول الله {(49)، قال القرطبي رحمه الله تعالى: "في هذا الحديث دليل على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة للأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل: التطيب والتكحل وما شابه ذلك" (50).
حكم الكرع ومعناه:
إذا لم يجد إناءً شرب بيده أو كرع كرعًا، أي: شرب بفمه مباشرة؛ لقول النبي {لرجلٍ من الأنصار: "إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا" رواه البخاري (51).
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: "الكرع: الشربُ من النهر أو الساقية بالفم من غير إناء ولا باليد" (52) قال الحافظ: "وإنما قيل للشرب بالفم كرع؛ لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها، والغالب أنها تدخل أكارعها حينئذ في الماء".
وساق الحافظ حديثين عند ابن ماجه يستفاد منهما النهي عن الكرع وضعفهما، ثم حاول الجمع بينهما وبين هذا الحديث.
العمل إذا سقط ذباب في مشروبه:
إذا سقط في مشروبه ذبابٌ فالسنة أن يغمسه ويخرجه ويشرب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي {قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء" رواه البخاري (53). فإن عافته نفسه فله أن يريقه ويشرب غيره.
دل على ذلك حديث أبي سعيد عند الترمذي، وفيه النهي عن التنفس في الإناء، فلما قال رجل: "القذاة أراها في الإناء، قال: أهرقها .. " الحديث (54). والقذاة أخف من الذباب، والذباب مستقذر أكثر من استقذار القذاة، فإذا جاز إهراقها في الأخف ففي الأشد من باب أولى على أنه يحتمل أن الإهراق للقذاة فقط؛ لكن الأظهر أنه يجوز والله أعلم.
الثاني عشر: تحريم الشرب بالشمال: ليحذر المسلمُ أن يشرب بشماله؛ لورود النهي عن ذلك، فالشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله (55).
وبعد فقد كانت تلك جملة من آداب الشرب، من حافظ عليها محتسبًا كان مأجورًا في شربه، يتلذذ بشرابه، ويطفئ عطشه، وينفع جسده، ومع ذلك يؤجر على اتباعه السنة. والواجب على المسلم تقوى الله تعالى، والأخذ بآداب الإسلام، والتزام هدي النبي محمد {؛ فإن الخيرَ كلَ الخير في ذلك ..
الهوامش:
1 - كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم في الألفاظ من الأدب وغيرها باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (2245)، وجاء في روايات أخرى أن رجلاً سقى كلباً فغفر الله له كما عند البخاري في الأدب باب رحمة الناس بالبهائم (6009)، ومسلم (2244)، وأبي داود في الجهاد باب ما يؤمر من القيام على الدواب والبهائم (2550).
2 - البيان والتحصيل لابن رشد (8 - 23).
¥