تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

"الفظاظة: الخشونة، وغلظُ القلبِ: قسوتُه، والانفضاضُ: الانصراف.

والمعنى: لو كنت خشناً في قولك أو فعلك، قاسي القلب - لانصرفوا من مجلسك، ولما استضاؤوا بنور هديك.

والفعل الواقع بعد لو الشرطية في حكم المنفي، فقوله -تعالى-: [وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً] ينفي عنه -عليه الصلاة والسلام- الفظاظة التي تظهر في قول أو فعل.

وقوله: [غَلِيظَ القَلْبِ] ينفي عنه سبب الفظاظة الذي هو جفاء الطبع.

وبهذا يثبت له -عليه الصلاة والسلام- لين الجانب وسماحة الخلق، وكأن الآية تقول: هو ليّن في قوله وفعله، وأن لينه هذا لم يصدر عن أمر عارض من نحو رغبة أو رهبة، بل كان عن طبيعة كريمة في النفس.

وليعتبر في هذه الآية من يتولى أمراً يستدعي أن يكون بجانبه أصحاب يظاهرونه عليه، حتى يعلم يقينا أن قوة الذكاء، وغزارة العلم، وسعة الحياة، وعظم الثروة - لا تكسبه أنصاراً مخلصين، ولا تجمع عليه من فضلاء الناس من يثق بصحبتهم إلا أن يكون صاحب خلق كريم من اللين والصفح والاحتمال.

وطبيعة اللين وسماحة الخلق، لا تنافي مزية الحزم والأخذ بالتي هي أشد عندما يقتضي الحال ذلك:

إذا قيل رفقاً قال للحلم موضعوحلم الفتى في غير موضعه جهل

وتمييز موضع اللين من موضع الشدة يرجع إلى ذكاء الإنسان، وإدراكه لطبائع الأشخاص الذين ينالونه بمكروه". ص330 - 331

14 - وقال في قوله -تعالى-: [فَاعْفُ عَنْهُمْ]:

"العفو: عدم المؤاخذة على الإساءة مع القدرة على المؤاخذة عليها، والحلم ضبط النفس في هيجان الغضب، وإذا قيل: إن العفو والحلم متقاربا المعنى فلأن عدم المؤاخذة على الإساءة المسمى عفواً إنما يعد في مكارم الأخلاق متى صار طبيعة للنفس، وإذا صار طبيعة لها سهل ضبطها عن هيجان الغضب.

وكذلك ضبط النفس عن هيجان الغضب يعد في مكارم الأخلاق بالنظر لما يتبعه من عدم المؤاخذة على الإساءة، فَأَمْرُ الرجل بأحد الوصفين: العفو والحلم، أو مدحه به، يغني في نظر علماء الأخلاق عن أمره أو مدحه بالآخر.

والعفو الخالص أن لا يُؤَاخِذَ الرجلَ بالإساءة، ولا يبقى له في نفسه أثر من غيظ، حتى يكون حاله في معاملة المسيء، وحبه له الخير كحاله لو لم يسيء إليه.

أُمِرَ -عليه الصلاة والسلام- بالعفو، وإنما يعفو فيما يختص به من الحقوق، كأن يؤذيه شخص في مال أو يسيء إليه بكلمة جافية لا تبلغ حد الكفر.

وأما الإساءة فيما هو حق الله، كترك الصلاة، أو الصيام، أو شرب الخمر - فلا يملك عنه إلا الله.

قالت عائشة -رضي الله عنها- فيما روي في الصحيح: "مارأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله".

وكان -صلى الله عليه وسلم- المثال الأكمل في هذا الخلق العظيم، وشواهد هذا ثابتة في كتب السيرة والحديث". ص331

15 - وقال في قوله -تعالى-: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]:

"المشاورة في الأمر: المراجعة فيه لاستطلاع الرأي الصالح، أي راجعهم في الأمر؛ لترى رأيهم فيه.

والمراد من الأمر ما يعرض من أمور الدنيا من نحو تدبير الحروب، وأما أمور الدين فقد أغناه الله عن الشورى فيها بما ينزل عليه من الوحي، أو بالاجتهاد الذي ينظر فيه بنور الله إن قلنا: أنه كان -عليه الصلاة والسلام- يجتهد في بعض الأحكام العملية.

وهذه الآية قررت أصلاً عظيماً من أصول السياسة الرشيدة، وهو أن لا يستبد ولي الأمر في تصريف الأمور دون أن يأخذ رأي أولي العلم.

وقد قررت هذا الأصل بأبلغ وجه؛ إذ وجهت الأمر فيه إلى أكبر الناس عقلاً، وأعرفهم بطرق المصالح، وأقلهم حاجة إلى الاستعانة برأي غيره، وهو أكمل الخليقة -صلوات الله عليه- فليس لأحد بعد هذا أن يتخيل أنه في غنى عن المشاورة بما أوتيه من كمال العقل، وسداد الرأي.

وفي الشورى استبانة الرأي الحق من بين آراء متعددة، وفيها تطييب خواطر مَنْ يهمهم أن يُدَبَّرَ الأمرُ على بصيرة، وفيها تأليف قلوبهم بما في مراجعة ولي الأمر لهم من التنبيه على رفعة أقدارهم في نظره.

وقد يتوهم الرجل أن الاستشارة تنبئ عن الاحتياج إلى رأي غيره؛ فهي من علامات اعتقادِه بضعف رأيه.

والحقيقة أن الإنسان -وإن بلغ عقله الغاية- لا يستغني عن الاستعانة في مشكلات الأمور بآراء الرجال؛ إذ العقول قد تكون نافذة في ناحية من الأمر، واقفة عند الظاهر في ناحية أخرى منه.

ولعلك لا تجد عقلاً في الناس ينفذ في كل ناحية وجهته إليها، ومن أدرك هذه الحقيقة، عرف يقيناً أن احتياج الإنسان إلى الاستشارة من مقتضيات الفطرة البشرية، ومن يجري على مقتضى الفطرة البشرية التي ليس في طاقته الخروج عنها إلا بعصمة من الله، لا يحق لأحد أن ينسبه إلى نقص.

وإن قلنا على وجه الفرض: إن احتياج الرجل إلى رأي غيره في بعض الأمور نقص - فإنا إذا وضعنا هذا النقص في كفة، ووضعنا الفوائد التي تحصل من الاستشارة في كفة، رجحت هذه الفوائد، وغطت على ذلك النقص حتى كأنه ذهب ولم يبق له عين ولا أثر". ص332 - 333

16 - وقال في قوله -تعالى-: [إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ]:

"المحبة من الإنسان ميل الطبع إلى الشيء، وهذا المعنى ممتنع في حق البارئ -جل جلاله- فإذا أضيفت المحبة إليه -تعالى- فهي صفة ثابتة له -تعالى- لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف من آثارها إيصال الخير إلى المحبوب وحفظه في الدنيا، وإعلاء منزلته في الدار الباقية". ص333

وعلى كل حال، فالكتاب لم يأخذ حظه من الذيوع والانتشار، فلعل الله يقيض له من يسعى إلى إعادة طبعه ونشره، والعناية به؛ لتعم الفائدة به، ويكون إضافة إلى ما شاده الأوائل من بناء.

ولعل الأستاذ علي الرضا الحسيني -وهو الحريص على تراث عمه الشيخ الخضر- أن يُعيد طباعة الكتاب مرة أخرى.

التوقيع

http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=9884

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير