ففى هذا الحديث علّق النبي ? بداية صيام رمضان والشّروع في الإفطار برؤية الهلال، وأمر عند تعذّرها في حالة الغيم بالتّقدير، فقال صلى الله عليه وسلم: «فإن غمّ عليكم فاقدروا له»، وقد اختلفوا في المراد من هذه العبارة على قولين:
الاول: بتقدير الهلال بالحساب الفلكيّ
ونسب هذا القول إلى مطرّف بن عبد اللّه بن الشّخّير من التّابعين وأبي العبّاس بن سريجٍ من الشّافعيّة وابن قتيبة من المحدّثين.
وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ عن مطرّفٍ، ونفى نسبة ما عرف عن ابن سريجٍ إلى الشّافعيّ لأنّ المعروف عنه ما عليه الجمهور.
ونقل ابن رشدٍ عن مطرّفٍ قوله: يعتبر الهلال إذا غمّ بالنّجوم ومنازل القمر وطريق الحساب، قال: وروي مثل ذلك عن الشّافعيّ في روايةٍ، والمعروف له المشهور عنه أنّه لا يصام إلاّ برؤيةٍ فاشيةٍ أو شهادةٍ عادلةٍ كالّذي عليه الجمهور.
وعن مطرّفٍ أيضًا أنّ العارف بالحساب يعمل به في نفسه.
أمّا ابن سريجٍ فاعتبر قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقدروا له»: خطاباً لمن خصّه اللّه تعالى بعلم الحساب، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «فأكملوا العدّة» خطاباً للعامّة.
وبيّن ابن الصّلاح ما قصده ابن سريجٍ من المعرفة بالحساب فقال: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلّة، وأمّا معرفة الحساب فأمر دقيق يختصّ بمعرفته الآحاد.
فمعرفة منازل القمر تدرك بأمرٍ محسوسٍ يدركه من يراقب النّجوم، وهذا هو الّذي أراده ابن سريجٍ، وقال به في حقّ العارف بها فيما يخصّه.
وقد اختلف النّقل عن ابن سريجٍ في حكم صيام العارف بالحساب عند ثبوت الهلال عنده، ففي روايةٍ عنه أنّه لم يقل بوجوب ذلك عليه، وإنّما قال بجوازه، وفي روايةٍ أخرى عنه لزوم الصّيام في هذه الصّورة.
وقال القشيريّ: إذا دلّ الحساب على أنّ الهلال قد طلع من الأفق على وجهٍ يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلاً، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السّبب الشّرعيّ، وليس حقيقة الرّؤية مشروطةً في اللّزوم.
والمعتمد في المذهب الحنفيّ أنّ شرط وجوب الصّوم والإفطار رؤية الهلال، وأنّه لا عبرة بقول المؤقّتين ولو عدولاً، ومن رجع إلى قولهم فقد خالف الشّرع، وذهب قوم منهم إلى أنّه يجوز أن يجتهد في ذلك، ويعمل بقول أهل الحساب.
ومنع مالك من اعتماد الحساب في إثبات الهلال، فقال: إنّ الإمام الّذي يعتمد على الحساب لا يقتدى به، ولا يتبع.
وبيّن أبو الوليد الباجيّ حكم صيام من اعتمد الحساب فقال: فإن فعل ذلك أحد فالّذي عندي أنّه لا يعتدّ بما صام منه على الحساب ويرجع إلى الرّؤية وإكمال العدد، فإن اقتضى ذلك قضاء شيءٍ من صومه قضاه.
وذكر القرافيّ قولاً آخر للمالكيّة بجواز اعتماد الحساب في إثبات الأهلة.
أمّا الشّافعيّة فقال النّوويّ: قال أصحابنا وغيرهم: لا يجب صوم رمضان إلاّ بدخوله، ويعلم دخوله برؤية الهلال، فإن غمّ وجب استكمال شعبان ثلاثين، ثمّ يصومون سواء كانت السّماء مصحيةً أو مغيّمةً غيماً قليلاً أو كثيراً.
وفي هذا حصر طرق إثبات هلال رمضان في الرّؤية وإكمال شعبان ثلاثين، وفي هذا الحصر نفي لاعتماد الحساب، وقد صرّح في موضعٍ آخر برفضه، لأنّه حدس وتخمين ورأى اعتباره في القبلة والوقت.
ولا يعتمد الحنابلة الحساب الفلكيّ في إثبات هلال رمضان، ولو كثرت إصابته.
والقول الثانى: بالمنع من اعتبار الحساب.
وقد فسّر أصحاب هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقدروا له» بتفسيرين
الأوّل: حمل التّقدير على إتمامهم الشّهر ثلاثين.
الثّاني: تفسير بمعنى تضييق عدد أيّام الشّهر.
التّفسير الأوّل: جاء عن عبد اللّه بن عمر أنّه يصبح مفطراً إذا كانت السّماء صاحيةً وصائماً إذا كانت مغيّمةً لأنّه يتأوّل قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ المراد منه إتمام الشّهر ثلاثين.
وإلى هذا المعنى ذهب أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ وجمهور السّلف والخلف،فحملوا عبارة: «فاقدروا له» على تمام العدد ثلاثين يوماً.
¥