كما فى الحديث الذى أخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق بن راهوية فى مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم والأزرقى ورواه الحاكم فى المستدرك وصححه ورواه البيهقى فى الدلائل من حديث على بن أبى طالب (فذهب إسماهيل يطوف فى الجبال فنزل جبريل بالحجر فوضعه، فجاء إسماعيل فقال لأبيه: من أين هذا الحجر؟ قال: جاء به من لم يتكل على بنائى ولا بنائك فلما فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره الله عز وجل أن يأذن فى الناس بالحج فقال إبراهيم: رب وما يبلغ صوتى فقال أذن وعلينا البلاغ قال إبراهيم: كيف؟ فماذا أقول؟ قال: قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون) أى يقولون لبيك اللهم لبيك.
والحديث رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم والبيهقى عن ابن عباس بأسانيد قوية كما قال الحافظ ابن حجر فى الفتح فى كتاب الحج. وذكر الإمام السيوطى فى الدر المنثور كل هذه الروايات لمن أراد أن يراجعها.
* هذه هى قصة بناء البيت بإيجاز شديد فى قوله جل وعلا: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ([11])
وبكة هى مكة، وسميت مكة ببكة لشدة الزحام، فالبك هو الازدحام. والبك أيضاً دق العنق. وقيل سميت بذلك لأن مكة تدق فيها رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم.
كما قال عبد الله بن الزيد لم يقصدها جبار بسوء قط إلا كسره ودقه وحادثة الفيل لا يجهلها مسلم بحال وقد جعلها الله قرآنا يتلى إلى يوم القيامة كما قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ([12])
أقول قولى هذا واستغفر اله لى ولكم.
* * *
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أحبتى فى الله:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ([13])
والبركة كثرة الخير وقد جعل الله البيت مباركاً لتضاعف الأعمال الصالحة فيه كما فى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة أن النبى قال: " صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام". ([14])
{فيه آيات بينات مقام إبراهيم}
والمقام فى اللغة موضع القدمين.
والقول الصحيح كما ذكرنا أنه الحجر الذى قام عليه إبراهيم لتم البناء فغاصت فيه قدماه، وهو الذى نراه اليوم مواجهاً لباب الكعبة شرفها الله، وكان المقام لصيقاً بالبيت حتى أخره إلى مكانه الذى فيه الآن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه ليسهل للطائفين طوافهم.
{ومن دخله كا آمنا}
قال قتادة: وذلك أيضاً من الآيات لأن الناس كانوا يتخطفوا من حواليه وأهل الحرام آمنون بفضل الله، كما أمتن الله عليهم بذلك فى قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} ([15]) وفى قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ([16])، وقال بعض أهل اللغة فى قوله تعالى: ٍ {ومن دخله كان آمنا} صورة الآية خبر
ومعناها أمر فتقديرها ومن دخله فأمنوا كقوله تعالى: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي
الْحَجِّ ([17]) أى لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا فى الحج.
وقال الإمام القرطبى فى الجامع لأحكام القرآن الكريم:
وإنما يكون آمنا من النار من دخله لقضاء النسك معظماً له عارفاً بحقه متقرباً بذلك إلى الله عز وجل وقال أحدهم: من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمناً من عذاب الله وهذا معنى قوله: كما فى الحديث الصحيح:
"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ([18])
وفى رواية صحيحة أخرى: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" ([19])
¥