تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بل إنّ الرب سبحانه من عظيم كرمه وجميل إحسانه بعباده الحجيج، يباهي ملائكته بحجاج بيته الحرام عندما يقفون جميعهم على صعيد عرفة ويقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم).

وبهذا يتبين أنّ الحاج يعود من حجه بأكبر ربح وأعظم غنيمة ألا وهي مغفرة ربه لذنبه، فيبدأ بعد الحج حياة جديدة صالحة مليئة بالإيمان والتقوى، عامرة بالخير والاستقامة والمحافظة على الطاعة. إلا أن حصول هذا الأجر مشروط كما تقدم بأن يأتي بالحج على وجه صحيح بإخلاص وصدق وتوبة نصوح، مع مجانبةِ لما يخل به من رفث وفسوق، فإذا كان كذلك جب ما قبله وخرج الحاج بتلك الحال الرائعة كيوم ولدته أمه بلا إثم ولا خطيئة.

الثالث: الدلالات العقدية في الإهلال بالتوحيد

إنّ من أجلّ الدروس العظيمة التي يفيدها المسلم في حجه لبيت الله الحرام، وجوب إخلاص العبادات كلها لله وحده لا شريك له فالمسلم يبدأ حجه أول ما يبدأ بإعلان التوحيد ونبذ الشرك قائلاً: " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، يقولها ويرفع بها صوته، وهو في الوقت نفسه مستشعر ما دلّت عليه من وجوب إفراد الله وحده بالعبادة، والبعد عن الشرك.

فكما أن الله متفرد بالنعمة والعطاء لا شريك له، فهو متفرّد بالتوحيد لا ند له، فلا يدعى إلا الله ولا يتوكل إلا على الله ولا يستغاث إلا به، ولا يصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا له.

وكما أن العبد مطالب بقصد الله وحده في الحج، فهو مطالب بقصده وحده في كل عبادة يأتيها وكل طاعة يتقرب بها، فمن صرف شيئاً من العبادة لغير الله أشرك بالله العظيم، وخسر الخسران المبين وحبط عمله، ولم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

لقد جاء الإسلام بهذا الإهلال العظيم -الإهلال بتوحيد الله وإخلاص الدين له والبعد عن الشرك كله صغيرة وكبيرة دقيقة وجليلة- بينما كان المشركون عبّاد الأصنام والأوثان يهلّون في إحرامهم بالحج بالشرك والتنديد، فكانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، فيدخلون مع الله في التلبية آلهتهم الباطلة، ويجعلون ملكها بيده وهذا هو معنى قول الله عنهم في القران الكريم {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ}، أي ما يؤمن أكثرهم بالله بأنه الخالق الرازق المدبر إلا وهم مشركون معه في العبادة أوثاناً لا تملك شيئاً، وأصناماً لا تنفع ولا تضر ولا تعطي ولا تمنع، بل لا تملك من ذلك شيئاً لنفسها فضلاً عن أن تملكه لغيرها.

روى ابن جرير والطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون".

وعن عكرمة أنه قال: "تسألهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فيقولون: الله، فذلك إيمانهم بالله وهم يعبدون غيره".

وعن مجاهد قال: "إيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره". وعن ابن زيد قال: "ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون، قال: "فليس أحد يشرك إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبّي تقول: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا".

لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقرّون بأن خالقهم ورازقهم ومدبر شؤونهم هو الله، ثم هم مع هذا الإقرار لا يخلصون الدين له بل يشركون معه غيره في العبادة، من الأشجار والأحجار والأصنام وغيرهم. وقد جلّى الله هذا الأمر وبيّنه في مواطن كثيرة من القران الكريم كقوله سبحانه {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير