فأما إذا قلنا: إنها فتحت صلحا فإنه يجوز بيعها وإجارتها. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب فيما تقدم: إذا كانت أرضا حرة مثل مكة وخراسان - فعليهم الصدقة، لأنهم يملكون رقبتها. فقد نص على ملك رقبة مكة، وشبهها بخراسان، ومعلوم أن أرض خراسان يجوز بيعها. اهـ[الأحكام السلطانية] ص (175). .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد حدثنا بعض الوفد أنهم كانوا يجمعون ببعض أرضكم، ثم إن بعض أهل العراق أفتاهم بترك الجمعة، فسألناه عن صفة المكان، فقال: هنالك مسجد مبني بمدر، وحوله أقوام كثيرون، مقيمون مستوطنون، لا يظعنون عن المكان شتاء ولا صيفا، إلا أن يخرجهم أحد بقهر، بل هم وآباؤهم وأجدادهم مستوطنون بهذا المكان، كاستيطان سائر أهل القرى، لكن بيوتهم ليست مبنية بمدر، إنما هي مبنية بجريد النخل ونحوه، فاعلموا- رحمكم الله- أن مثل هذه الصورة تقام فيها الجمعة، فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا- تقام فيه الجمعة إن كان مبنيا بما جرت به عادتهم من مدر وخشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر ويتنقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا، وهذا مذهب جمهور العلماء.
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 345)
وبقصة أرضكم احتج الجمهور على أبي حنيفة حيث قال: لا تقام الجمعة في القرى - بالحديث المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بالبحرين بقرية يقال لها جواثى من قرى البحرين، وبأن أبا هريرة رضي الله عنه، وكان عامل عمر رضي الله عنه على البحرين فكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستأذنه في إقامة الجمعة بقرى البحرين فكتب إليه عمر: أقيموا الجمعة حيث كنتم. ولعل الذين قالوا لكم: إن الجمعة لا تقام، قد تقلدوا قول من يرى الجمعة لا تقام في القرى، أو اعتقدوا أن معنى قول الفقهاء في الكتب المختصرة: إنما تقام بقرية مبنية بناء متصلا أو متقاربا بحيث يشمله اسم واحد. فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة أو لبن، وهذا غلط منهم، بل قد نص العلماء على أن البناء إنما يعتبر بما جرت به عادة أولئك المستوطنين من أي شيء كان، قصب أو خشب ونحوه.
ولهذا فالعلماء الأئمة إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمد، وبين المقيمين، بأن أولئك يتنقلون ولا يستوطنون بقعة، بخلاف المستوطنين، وقد كان قوم من السلف يبنون لهم بيوتا من قصب، والنبي صلى الله عليه وسلم سقف مسجده بجريد النخل، حتى كان يكف المسجد إذا نزل المطر. قالوا: يا رسول الله، لو بنينا لك- يعنون: بناء مشيدا- فقال: بل عريش كعريش موسى. وقد نص على مسألتكم بعينها- وهي: البيوت المصنوعة من جريد أو سعف- غير واحد من العلماء منهم أصحاب الإمام أحمد؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن الآمدي، وابن عقيل، وغيرهم- فإنهم ذكروا أن كل بيوت مبنية من آجر أو طين أو حجارة أو خشب أو قصب أو
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 346)
جريد أو سعف فإنه تقام عندهم الجمعة، وكذلك ذكرها غير واحد من أصحاب الشافعي- رضي الله عنهم- من الخراسانيين، كصاحب [الوسيط] فيما أظن، ومن العراقيين أيضا أن بيوت السعف تقام فيها الجمعة. وخالف هؤلاء الماوردي في [الحاوي]، فذكر أن بيوت القصب والجريد لا تقام فيها الجمعة، بل تقام في بيوت الخشب الوثيقة.
وهذا الفرق ضعيف مخالف لما عليه الجمهور والقياس، ولما دلت عليه الآثار وكلام الأئمة، فإن أبا هريرة كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يسأله عن الجمعة وهو بالبحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب: أن جمعوا حيثما كنتم، وذهب الإمام أحمد إلى حديث عمر هذا.
وعن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يمر بالمياه التي بين مكة والمدينة وهم يجمعون في تلك المنازل- فلا ينكر عليهم. فهذا عمر يأمر أهل البحرين بالتجميع حيث استوطنوا، مع العلم بأن بعض البيوت تكون من جريد. ولم يشترط بناء مخصوصا، وكذلك ابن عمر أقر أهل المنازل التي بين مكة والمدينة على التجميع، ومعلوم أنها لم تكن من مدر، وإنما هي إما من جريد أو سعف.
وقال الإمام أحمد: ليس على البادية جمعة؛ لأفهم ينتقلون، فعلل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطنا لا ينتقل باختياره فهو من أهل القرى.
والفرق بين هؤلاء وبين أهل الخيام من وجهين:
أحدهما: أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكانا بعينه، وإن استوطن فريق منهم مكانا فهم في مظنة الانتقال عنه، بخلاف هؤلاء
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 347)
المستوطنين الذين يحترثون ويزدرعون، ولا ينتقلون إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر. إما لحاجة تعرض، أو ليد غالبة تنقلهم كما تفعله الملوك مع الفلاحين.
الثاني: أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا، فصارت من المنقول لا من العقار، بخلاف الخشب والقصب والجريد، فإن أصحابها لا ينقلونها؛ ليبنوا بها في المكان الذي ينتقلون إليه، وإنما يبنون في كل مكان بما هو قريب منه. مع أن هذا ليس موضع استقصاء الأدلة في المسألة، وهذه المسألة- إقامة الجمعة بالقرى - أول ما ابتدأت من ناحيتكم، فلا تقطعوا هذه الشريعة من أرضكم فإن الله يجمع لكم جوامع الخير. ا هـ المقصود [مجموع الفتاوى] (24\ 166 - 170). .
والمشاهد من نقل كلام شيخ الإسلام: أن لا اعتبار لنوع ما أقيم به المسكن، فإن الحكم لا يختلف باختلاف نوعه، وإنما الاعتبار بنية من أقامه أو النازل من حيث القصد إلى الاستقرار أو عدمه، وغلبة أحد الأمرين عليه، سواء كان من مدر أم خشب أم قصب أو خيام أو نحو ذلك، وعلى هذا فلا أثر لكون ما أقيم من المنازل في منى من خيام أو خشب أو قصب أو نحوها، وإنما الأثر لما يغلب على الظن من اتخاذ ذلك من الدوام والاستقرار أو الظعن والارتحال عن المكان.
الرابط: http://www.alifta.com/Fatawa/FatawaSubjects.aspx?View=Page&NodeID=1684&PageID=325&SectionID=1&MarkIndex=0&0#%d8%a8%d9%8a%d8%b9%d8%a3%d8%b1%d8%b6%d9%85%d9%83 %d8%a9
¥