من جواز إحياء مواتها وتملكها، ومن ملك منها شيئا قبل ذلك كان هو وسواه في منافعه سواء، فلا يجوز له بيعه ولا كراؤه، ثم قال: ومن تأول الآية على المسجد أجاز بيع دورها وكراءها، وبه قال أبو يوسف والشافعي، وكره مالك على جميعهم البيع والكراء، وفي جواز إحياء موات عرفة ومزدلفة اختلاف بين أهل العلم، وما ذكرنا في منى أولى بالمنع؛ سنن الترمذي الحج (881)، سنن أبو داود المناسك (2019)، سنن ابن ماجه المناسك (3007)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 187)، سنن الدارمي المناسك (1937). لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما هو مناخ لمن سبق، و (إنما) في كلام العرب لإثبات المذكور، ولنفي ما سواه، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى باختصار من كلامه عن بعض ما استدل به على عدم الاختصاص في ذلك.
وقال المحب الطبري في القرى لما تكلم على هذا الحديث: وقد احتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها، ثم قال: قلت: فيحتمل أن يكون ذلك مخصوصا بمنى؛ لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها، فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد اقتطاع موضع فيها لبناء ولا غيره، بل الناس فيها سواء، وللسابق حق السبق، وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة إلحاقا بها. انتهى.
وجزم النووي في [المنهاج] من زوائده بأن منى ومزدلفة لا يجوز إحياء مواتهما، كعرفة، والله أعلم. انتهى.
ونقل عن الشافعي: أنه بنى بمنى مضربا ينزل فيه أصحابه إذا حجوا. روى ذلك عنه أبو ثور، وهو أحد رواة القديم، وتمسك به بعضهم على جواز البناء بمنى، وفي العمل به على تقدير صحته عن الشافعي نظر لأمرين:
أحدهما: أن الشافعي قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والحديث
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 351)
الوارد في النهي عن البناء بمنى تقوم به الحجة، لأن الترمذي حسنه، وأبا داود سكت عنه، فهو في معنى الصحيح؛ لقيام الحجة به على ما هو مقرر في علم الحديث، فالشافعي حينئذ يقول به ويصير ذلك مذهبه وصحبه، ومثل هذا لا ينكر؛ لأنه وقع للنووي مثله في غير مسألة، ولعل هذا فيما ذكره من عدم جواز إحياء موات منى ومزدلفة مع قياسهما على عرفة، لمشاركتهما لعرفة في علة الحكم، والله أعلم.
والأمر الثاني: أنه لا ريب في أن الشافعي على تقدير ثبوت بنائه بمنى لم يكن يحجر بناءه بمنى عن أحد، ولا يأخذ على النزول فيه أجرا، وأن بناءه بمنى لأجل الارتفاق به من جهة الظل، وصيانة الأمتعة، وشبه ذلك، فلا يقاس عليه من لم يقصد ببنائه إلا الاختصاص بنزوله وأخذ الأجرة على نزوله، كما هو الغالب من أحوال أهل العصر، وإلحاق من هو بهذه الصفة لمن حسنت نيته عند الشافعي لا يحسن. والله أعلم.
وسمعت قاضي الحرم - جمال الدين أبا حامد بن ظهيرة أبقاه الله- يقول: إن جدي لأمي قاضي مكة، أبا الفضل النويري كان ينكر على البناء بمنى، ويشدد فيه، وينهى أشد النهي. انتهى بالمعنى.
وأما ما أفتى به الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الشافعي مؤلف [مختصر الروضة] من أن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها - فإن ذلك غير سديد نقلا ونظرا:
أما النقل؛ فلمخالفته مقتضى الحديث، وكلام النووي، وابن عساكر، والمحب الطبري وغيرهم، وأما النظر؛ فلأن أعظم ما يمكن أن يتمسك به في ذلك كون موات الحرم يجوز إحياؤه، ومنى من الحرم فيملك ما أحيي فيها، ويجري فيها أحكام الملك، وهذا
(الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 352)
لا يستقيم؛ لأن في منى أمرا زائدا يقتضي عدم إلحاقها بموات الحرم، وهو كونها متعبدا ونسكا لعامة المسلمين- فصارت كالمساجد وغيرها من المسبلات، وما هذا شأنه لا اختصاص فيه لأحد إلا بالسبق في النزول لا بالبناء. إذ هو ممتنع فيه.
فالبناء بمنى ممتنع حينئذ، ولا يملك، ولا يكون كغيره مما يصح تملكه، ويجرى حكم البناء بمنى على حكم البناء بعرفة؛ لمساواتها لعرفة في السبب الذي لأجله امتنع البناء بعرفة على الأصح، فمنى كذلك. والله أعلم. ا هـ[شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام] (1\ 321، 322) مطبعة الحلبي.
هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 22\ 9\ 1393 هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن سليمان بن منيع: عضو
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان: عضو
عبد الرزاق عفيفي: نائب الرئيس
إبراهيم بن محمد آل الشيخ: رئيس اللجنة
¥