تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

و روى مسلم و أبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: «بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا و يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا».

قلتُ: جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين، و كثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر و نفي الضرر، و رفع الحَرَج، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه، و حمّلوه ما لا يحتمل، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً، و فيما يلي نقضُ غَزلهم، و كشف شبههم إن شاء الله:

أوّلاً: ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر و التيسير، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة، و مقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب و السنّة، و أنزله النبيّ صلى الله عليه وسلم و السلفُ الصالحُ منزلَتَه، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر، و يعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً، و هذا مَوطِنُ الخَلل.

ثانياً: إن اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ:

النكتة الأولى: أنَّ الاختيار واقع منه صلى الله عليه وسلم فيما خُيّر فيه، و ليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به، هو أو أمّته، و مثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان، و تكبيرات العيد، و ما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما.

و الثانيّة: تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً، و لا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح، أو تعطيل (و من باب أولى رد) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء.

و الثالثةُ: أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين، و هذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا، و قدّ أمِرنا بالردّ إليهم، و منهم الحافظ ابن حجر، حيث قال رحمه الله في الفتح: (قولُه بين أمرين: أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... و وقوع التخيير بين ما فيه إثم و ما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح، و أمَّا من قبل الله ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين) [فتح الباري: 6/ 713].

و النكتة الرابعة و الأخيرة: أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم الأشقَّ على نفسه، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر. قال الحافظ في الفتح: (لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً، و بين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف، و إن كانت السعة أسهل منه، و الإثم على هذا أمر نسبي، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له) [فتح الباري: 6/ 713].

ثالثاً: لا تكليف بدون مشقّة، و إن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه، و هي متفاوتة، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة ...

قال الشاطبي رحمه الله: (المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً) [الموافقات: 2/ 128].

و قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله: (لو جاز لكل مشغول و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب و اضمحل بالكلية) [إعلام الموقعين 2/ 130].

و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر: (إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها، فإن كانت مشقة مرض و ألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر و الصلاة قاعداً أو على جنب، و ذلك نظير قصر العدد، و إن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه) [إعلام الموقعين 2/ 131].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير