قوله رحمه الله: [مِنْ نَابِتٍ فيهِ، ووَرَقِ شَجَرٍ] هذا كثير في البادية يكون على البئر شجرة مثل شجرة اللوز، وهذه الشجرة تسقط أوراقها فتسقط في البئر، ثم تصبح رائحة ماء البئر كرائحة اللوز، فإذا تغيّر الماء على هذا الوجه الذي يشق صون البئر عنه لم يؤثر، وهو أيضاً كثير في المستنقعات، والبرك التي توجد داخل الغابات، والبساتين، فكثيراً ما تجدها مغطاة بأوراق الأشجار خاصة في فصل الخريف، وتجد طعم الماء متغيّراً بطعم ذلك الورق، ولكنه تغيّرٌ يشقُّ صونُ الماء عنه؛ فلم يضر.
وفي حكم هذه الحالة مياه السيول، والأمطار فإنها تجرف التراب، ويتغير لونها، وطعمها بما يشق صونها عنه.
قوله رحمه الله: [أو بمجَاورةِ مَيْتَةٍ]: قوله [أو بمجاورة] المراد به الملاصقة، لأن مجاورة الميتة للماء الطهور لا تضر إذا لم تكن ملتصقة، وتضرُّ إذا كانت ملتصقة به، ثم فصّل بعض العلماء رحمهم الله في حال إلتصاقها؛ فحكم بضَرَرِهِ إذا تغيّر اللّون، والطّعم.
واختلف في الرائحة:
فقال بعضهم: تؤثر.
وبعضهم قال: لا تؤثر، وقد أشار بعض العلماء إلى هذه المسألة بقوله:
ليسَ المجاورُ إذَاْ لمْ يلتصقْ ... يَضرُّ مطلقاً وضَرَّ إن لَصقْ
في اللّونِ والطَّعمِ بالاتفاقِ ... كالرِّيحِ في مُعْتَمدِ الشِّقاق
فقوله: (ليس المجاور إذا لم يلتصق) يعني أن النجاسة لا تضرّ مطلقاً إذا لم تكن ملتصقة بالماء الطهور، سواء كانت بعيدة عن الماء، أو قريبة منه ما دام أنها لم تلاصقه لا تؤثر.
وقوله (وضرَّ إنْ لصِقْ) أي: أنه إذا كان ملتصقاً بالطهور؛ فإنه يضر.
وقوله (في اللَّون، والطَّعم) يعني: إذا تغير لون الماء الموجود في المستنقع، وطعمه فإنه يسلبه الطهورية بالإتفاق، وأما إذا تغيّر في الرائحة؛ فإنه يسلبه الطهورية على أرجح قولي العلماء في المسألة.
قوله رحمه الله: [أو سُخِّنَ بِالشَّمْسِ] أي: وضع الإناء في الشمس؛ فصار ساخناً؛ فإنه لا يسلبه الطهورية، ويجوز استعماله في الطهارة، وفيه أثر ضعيف، وكرهه بعض العلماء رحمهم الله بناء على قول بعض الأطباء إنه يورث البرص، وإذا ثبت فيه ضرر لم يجز استعماله دفعاً لذلك الضرر، وأما إذا لم يثبت فإن الأصل طهوريته، وسلامته، وقد نصّ الإمام أحمد رحمه الله على جواز الطهارة به.
وقوله رحمه الله: [أَوْ بِطَاهرٍ] أي: سُخِّن بطاهر كالحطب، والفحم، والغاز في زماننا، فيجوز استعماله بلا كراهة، مثلما جاز إستعمال المياه الحارة في العيون الحارة.
وعليه فالسخانات في زماننا يجوز استعمال مائها بلا كراهة، إلا أن هنا مسألة ينبغي التنبيه عليها، وهي أن الماء شديد الحرارة، أو شديد البرودة قد يتساهل البعض عند إستعماله في إدارته على الأعضاء وغسلها على الوجه المعتبر، فحينئذ ينبغي عند استعماله أن لا يتساهل مستعمله في القيام بالطهارة على وجهها المعتبر.
قوله رحمه الله: [وإِنْ استُعملَ في طَهارةٍ مُسْتَحبّةٍ] الطهارة إما واجبة، أو مستحبة، فالواجبة هي الأصلية، وهي التي تكون لرفع الحدث الأصغر، أو الأكبر، فإذا توضأ في الحدث الأصغر، أو اغتسل من الحدث الأكبر فإن الماء المستعمل في الطهارتين ماء مستعمل في طهارة واجبة، وأما إذا كان وضوؤه وغسله غير واجبين كتجديد الوضوء، والغسل للجمعة على القول بعدم وجوبه، أو الغسل للعيدين فإنه مستعمل في طهارة غير واجبة، ويلتحق به ماء مستعمل في الغسلة الثانية، والثالثة في الوضوء لأنها ليست بواجبة، والأولى هي الواجبة؛ لأن الأمر في آية الوضوء لا يقتضي التكرار، كما هو مقرر في الأصول.
فالمصنف رحمه الله بيّن أن الماء المستعمل في الطهارة المستحبة مكروه، وهذا يستلزم الحكم بكون الماء لا زال طهوراً.
والحكم بالكراهة مبني على ما قدمناه من الأصل عند العلماء رحمهم الله من تردد الأمر بين المأذون والمحظور، فأُعطي حكم الكراهة ترغيباً في الترك عند وجود غيره، لا تحريماً للحلال.
والأصل عندهم في هذا أنه مبني على طريق الورع كما نبّه عليه الإمام البهوتي رحمه الله، وغيره، فصار من جنس المشتبه، ودلّ حديث النعمان رضي الله عنه على الترغيب في تركه، وهذا كله ليس من تحريم الحلال في شيء، كما لا يخفى.
¥