فالمقصود أنه ينبغي للإنسان أن يستتر، وأنبه على مسألة يخطئ فيها كثير-أصلحهم الله- خاصة من الجهلة، والعوام؛ فإنهم يأتون إلى أماكن الوضوء، ويكشفون عوراتهم، ويستنجون فيها دون حياء من الناس، ولا خوف من الله-جل وعلا- فأماكن الوضوء المخصّصة للوضوء لا يصلح فيها للإنسان أن يكشف عورته، وكذلك أيضاً يتسبب في أذية الناس بنتن البول، وريحه، فهذه من الأمور الممقوتة التي لا ينبغي للمسلم أن يفعلها، ومن رُئِي منه فعل ذلك يُنصح، ويُذكّر، ويخوّف بالله-جل وعلا-، ويقال له: إتق الله، ولا تؤذ المسلمين، فإن أماكن الوضوء ليست لقضاء الحاجة لما فيها من أذية الناس بالرائحة، والنَّتن، وقد ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إتقوا اللّعانين، قالوا: وما اللّعانَانِ يا رسول الله؟ قال: الذي يبول في طريق النّاسِ، وفي ظِلِّهمْ] فبيّن عليه الصلاة والسلام تحريم البول في هذين الموضعين لما فيهما من عظيم الضرر على المسلمين، فكذلك الحال فيمن يبول في أماكن الوضوء، حيث جمع بين كشف العورة، وأذية الناس بنتن البول، والنجاسة نسأل الله السلامة والعافية.
قوله رحمه الله: [وإرتيَادُه لِبَولِهِ مَوْضِعاً رَخْواً]: قوله: [وارتياده]: مأخوذ من قولهم: إرتاد الشيء: إذا طلبه، ومنه سُمّي الرائدُ رائداً، والرائد في لغة العرب: هو الرجل الذي يُرسله الناس إذا كانوا في سفر لكي يطلب الماء لهم، فالرّيادة الطلب، فقوله: [إرتياده] أي: طلبه.
قوله: [وإرتيادُه لبوله موضعاً رخواً]: أي إذا أراد المسلم أن يبول فإنه يطلب الأرض الرخوة؛ لأن الأرض الرخوة أمكن في استيعاب البول، وأبعد من أن يتطاير طشاش البول، والنجاسة على البدن، والثوب فينجسه، فشُرع له أن يطلب المكان الرخو، وفيه حديث ضعيف عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إِذَا بالَ أحدُكم فَلْيَرتَدْ لِبَولِهِ] أخرجه أحمد وأبوداود، وفيه راوٍ لم يسمّ، وهو الراوي عن أبي موسى رضي الله عنه،
وقد فُسِّر الإرتياد بمعنى الإختبار، والطلب كما مال إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، ولكن معناه صحيح أن الإنسان يشرع له أن يطلب مكاناً رخواً؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من الاستنزاه من البول وقد دلَّ على ذلك حديث الصحيحين عن إبن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجلين المعذبين في قبريهما، فمعنى الحديث، ومتنه صحيح، وإن كان سنده فيه ضعف، فإذا طلب المكان الرِّخو حقّق مقصودَ الشَّرع من الإستنزاه من البول؛ لأنه لا يأمن غالباً من طشاش البول، والأماكن تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون صلبة.
القسم الثاني: أن تكون رخوة.
وفي كلا القسمين إما أن تكون الأرض طاهرة، وإما أن تكون نجسة.
فأصبح القسمان منقسمين إلى أربعة.
فإن كان المكان طاهراً صلباً بال جالساً، وإن كان نجساً رخواً بال قائماً، وإن كان نجساً صلباً إمتنع من البول فيه، وإن كان طاهراً صلباً خُيِّر بين الجلوس، والقيام، وقد جمع بعض الفضلاء هذه الصور الأربعة في قوله:
للطَّاهِرِ الصُّلبِ اجْلسِ وامْنَعْ بِرَخوٍ نَجِسِ
والنَّجِسَ الصُّلْبَ اجْتنبِ واْجلسْ وقُمْ إِن تَعْكِسِ
هذه أربع صور:
فقوله: (للطّاهِر الصُّلْبِ اجلِسِ): يعني إذا كان المكان طاهراً صلباً فإجلس.
وقوله: (وامنَع برخوٍ نجس): يعني إذا كان مكاناً رخواً نجساً كما يحدث الآن إذا امتلأ موضع قضاء الحاجة لا يجلس الإنسان؛ لأنه إذا جلس ربما سقط ثوبه في النجاسة، أو تطاير طشاش البول على بدنه، أو ثوبه، خاصة عند قضائه لحاجته.
وقوله: (والنَّجِسَ الصُّلبَ اجتنب): أي إذا كان مكاناً صلباً نجساً، فلا تقضي الحاجة فيه أعني البول لأنه لا يأمن التَّنجس غالباً.
وقوله: (واجْلِسْ وقُمْ إِنْ تَعْكِسِ): يعني الطَّاهر الرَّخو إن شئت فاجلس فيه، وإن شئت فقم، فأنت مخيرٌ وقد صحّ عن النبي-?- أنه بال قائماً، فالسُّنة دالة على جواز البول قائماً.
ومنع بعض العلماء منه، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- وكانت تقول: " من حدَّثكمْ أن رسول الله-?- بالَ قائماً؛ فلا تُصَدّقُوه " والظاهر أنه لم يبلغها ذلك فحدثت بما رأته من غالب حاله عليه الصلاة والسلام وهو البول جالساً، وقد صحَّ في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه: [أنَّ النَّبي-?- أتى سُباطةَ قومٍ فبَالَ قَائِماً] فدلّ على جواز البول قائماً قال بعض العلماء: إن النبي-?- بال قائماً لعلّة؛ قيل: كان فيه مرض تحت ركبته في المَأبِضْ فلا يستطيع أن يثني رجليه فيجلس لقضاء حاجته فبال قائماً للضرورة.
وقيل: بال قائماً إستشفاءً من مرض الصُّلبِ، وكانت العرب تستشفي من أمراض الظهر بالبول قائماً فقالوا: إنه بال قائماً إستشفاءً من مرض الصُّلب.
وهذان الوجهان عُلِّلَ بهما لكي يقال: إن الأصل المنع، ولكن هناك وجه ثالث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، فلا حرج في فعله؛ لأنه لم يرد نهي عن البول قائماً حتى يقال إن الأصل يقتضي التحريم، والمنع؛ ولأنه لو كان بوله قائماً لعلّة المرض لنبّه على ذلك الصحابي، ولكنه لم يذكر شيئاً من ذلك، فدلّ على عدمه، وعليه فإنه يترجح القول بأنّ هذا جائز، ولا حرج فيه ولكن الهدي الأكمل،
والأمثل أن يبول جالساً، وذلك لأنه هو هديه عليه الصلاة والسلام في أغلب أحواله، ولأن الجلوس أبلغ في الإستتار، والتحفظ من البول والله أعلم.
وقال بعض العلماء: بال عند سُباطة القوم قائماً؛ لأن السُّباطة مكان القذر، والنّجاسة؛ فلم يجلس-صلوات الله وسلامه عليه- من أجل ذلك، وهذه العلة هي الوحيدة القوية من بين العلل التي ذكروها لوجود دلالة في الظاهر تدلُّ عليها.
¥