وأما قول عائشة فإنها ردت الأمر إلى صاحب الشرع فقالت لو رأى لمنع ولم تمنع هي وقد حبذ عمر السترة على الامة وقال لا تشبهي بالحرائر ومعلوم أن فيهن من تفنن لكنه لما وضع كشف رأسها للفرق بين الحرائر والإماء جعله فرقا فما ظنك بكشف وضع بين النسك والإحلال وقد ندب الشرع إلى النظر إلى المرأة قبل النكاح وأجاز للشهود النظر فليس ببدع أن يأمرها بالكشف ويأمر الرجال بالغض ليكون أعظم للابتلاء كما قرب الصيد إلى الأيدي في الإحرام ونهى عنه.
قلت سبب هذا السؤال والجواب خفاء بعض ما جاءت به السنة في حق المرأة في الإحرام فإن النبي لم يشرع لها كشف الوجه في الاحرام ولا غيره وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصة كما جاء بالنهي عن القفازين وجاء النهي عن لبس القميص والسراويل ومعلوم ان نهيه عن لبس هذه الاشياء لم يرد أنها تكون مكشوفة لا تستر البتة بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإزار مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد وكيف يزاد على موجب النص ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهارا فأي نص اقتضى هذا أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة بل وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب والبرقع بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءه والخمار والثوب فلم ينه عنه البته
ومن قال إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم ولا يصح قياسه على رأس المحرم لما جعل الله بينهما من الفرق
وقول من قال من السلف إحرام المرأة في وجهها إنما اراد به هذا المعنى أي لا يلزمها اجتناب اللباس كما يلزم الرجل بل يلزمها اجتناب النقاب فيكون وجهها كبدن الرجل
ولو قدر أنه أراد وجوب كشفه فقوله ليس بحجة ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك وأراد به وجوب كشف الوجه ولا سبيل إلى واحد من الأمرين وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كنا إذ مر عنها الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها ولم تكن إحداهن تتخذ عودا تجعله بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعض الفقهاء ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة ولا أمهات المؤمنين البتة لا عملا ولا فتوى.
ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإحرام ولا يكون ظاهرا مشهورا بينهن يعرفه الخاص والعام ومن آثر الإنصاف وسلك سبيل العلم والعدل تبين له راجح المذاهب من مرجوحها وفاسدها من صحيحها والله الموفق والهادي.
وقال رحمه الله في اعلام الموقعين 2/ 393:
وأصحاب الرأي والقياس حملوا معاني النصوص فوق ما حملها الشارع وأصحاب الألفاظ والظواهر قصروا بمعانيها عن مراده فأولئك قالوا إذا وقعت قطرة من دم في البحر فالقياس أنه ينجس ونجسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء البتة بتلك القطرة وهؤلاء قالوا إذا بال جرة من بول وصبها في الماء لم تنجسه وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نجسه ونجس أصحاب الرأي والمقاييس القناطير المقنطرة ولو كانت ألف ألف قنطار من سمن أو زيت أو شيرج بمثل رأس الإبرة من البول و الدم والشعرة الواحدة من الكلب والخنزير عند من ينجس شعرهما وأصحاب الظواهر والألفاظ عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت أو شيرج أو خل أو دبس أو ودك غير السمن ألقيت الميتة فقط وكان ذلك المائع حلالا طاهرا كله فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو وخنزير أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير
ومن ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين يعني في الإحرام فسوى بين يديها ووجها في النهي عما صنع على قدر العضو ولم يمنعها من تغطية وجهها ولا أمرها بكشفه البتة ونساؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلم الأمة بهذه المسألة وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن وروى وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت سألت عائشة ما تلبس المحرمة فقالت لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوب على وجهها فجاوزت طائفة ذلك ومنعتها من تغطية وجهها جملة قالوا وإذا سدلت على وجهها فلا تدع الثوب يمس وجهها فإن مسه افتدت ولا دليل على هذا البتة وقياس قول هؤلاء إنها إذا غطت يدها افتدت فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سوى بينهما في النهي وجعلهما كبدن المحرم فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين هذا للبدن وهذا للوجه وهذا لليدين ولا يحرم ستر البدن فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها لئلا تعرف ويفتتن بصورتها ولولا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في المحرم ولا يخمر رأسه لجاز تغطيته بغير العمامة
وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة عثمان وابن عباس وعبد الله ابن الزبير وزيد بن ثابت وجابر أنهم كانوا يخمرون وجوههم وهم محرمون فإذا كان هذا في حق الرجل وقد أمر بكشف رأسه فالمرأة بطريق الأولى والأحرى
وقصرت طائفة أخرى فلم تمنع المحرمة من البرقع ولا اللثام قالوا إلا أن يدخلا في اسم النقاب فتمنع منه وعذر هؤلاء أن المرجع إلى ما نهى عنه النبي ص = ودخل في لفظ المنهي عنه فقط والصواب النهي عما عما دخل في عموم لفظه وعموم معناه وعلته فإن البرقع واللثام وإن لم يسميا نقابا فلا فرق بينهما وبينه بل إذا نهيت عن النقاب فالبرقع واللثام أولى ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وقال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام:
واعلم أن المصنف لم يأت بالحديث فيما يحرم على المرأة المحرمة والذي يحرم عليها في الأحاديث الانتقاب أي لبس النقاب كما يحرم لبس الرجل القميص والخفين فيحرم عليها النقاب ومثله البرقع وهو الذي فصل على قدر ستر الوجه لأنه الذي ورد به النص كما ورد بالنهي عن القميص للرجل مع جواز ستر الرجل لبدنه بغيره اتفاقا فكذلك المرأة المحرمة تستر وجهها بغير ما ذكر كالخمار والثوب ومن قال إن وجهها كرأس الرجل المحرم لا يغطى شيء فلا دليل معه
¥