تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الشك الذي رويت فيه الكراهة الشك في أول رمضان؛ لأن الأصل بقاء شعبان. وإنما الذي يشتبه في هذا الباب مسألتان: أحداهما: لو رأى هلال شوال وحده، أو اخبره به جماعة يعلم صدقهم: هل يفطر؟ أم لا؟ والثانية: لو رأى هلال ذي الحجة، أو أخبره جماعة يعلم صدقهم، هل يكون في حقه يوم عرفة، ويوم النحر هو التاسع، والعاشر بحسب هذه الرؤية التي لم تشتهر عند الناس؟ أو هو التاسع والعاشر الذي اشتهر عند الناس؟ فأما المسألة الأولى: فالمنفرد برؤية هلال شوال، لا يفطر علانية، باتفاق العلماء. إلا إن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سراً على قولين للعلماء أصحهما لا يفطر سراً، وهو مذهب مالك، واحمد في المشهور في مذهبهما. وفيهما قول انه يفطر سراً كالمشهور في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وقد روى أن رجلين في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأيا هلال شوال، فأفطر أحدهما، ولم يفطر الآخر. فلما بلغ ذلك عمر قال للذي افطر: "لولا صاحبك لأوجعتك ضرباً". والسبب في ذلك أن الفطر يوم يفطر الناس، وهو يوم العيد، والذي صامه المنفرد برؤية الهلال ليس هو يوم العيد الذي نهى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عن صومه، فإنه نهى عن صوم يوم الفطر، ويوم النحر وقال: "أما أحدهما فيوم فطركم من صومكم، وأما الآخر فيوم تأكلون فيه من نسككم" فالذي نهى عن صومه هو اليوم الذي يفطره المسلمون وينسك فيه المسلمون. وهذا يظهر بالمسألة الثانية، فانه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له أن يقف قبل الناس في اليوم الذي هو في الظاهر الثامن، وان كان بحسب رؤيته هو التاسع، وهذا لأن في انفراد الرجل في الوقوف، والذبح، من مخالفة الجماعة ما في إظهاره للفطر. وأما صوم يوم التاسع في حق من رأى الهلال، أو اخبره ثقتان أنهما رأيا الهلال، وهو العاشر بحسب ذلك، ولم يثبت ذلك عند العامة، وهو العاشر بحسب الرؤية الخفية، فهذا يخرج على ما تقدم. فمن أمره بالصوم يوم الثلاثين الذي هو بحسب الرؤية الخفية من شوال، ولم يأمره بالفطر سراً، سوغ له صوم هذا اليوم، واستحبه؛ لأن هذا هو يوم عرفة، كما أن ذلك من رمضان، وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة والاعتبار. ومن أمره بالفطر سرا لرؤيته، نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل، كهلال شوال الذي انفرد برؤيته. فإن قيل قد يكون الإمام الذي فوض إليه إثبات الهلال مقصراً، لرده شهادة العدولً إما لتقصيره في البحث عن عدالتهم. وإما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم، أو غير ذلك من الأسباب، التي ليست بشرعية، أو لاعتماده على قول المنجم الذي زعم انه لا يرى. قيل: ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال، مجتهداً مصيباً كان أو مخطئاً، أو مفرطاً، فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه. وقد ثبت في الصحيح إن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال في الأئمة: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم". فخطؤه وتفريطه عليه، لا على المسلمين الذين لم يفرطوا، ولم يخطئوا. ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة انه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في الصحيحين إنه قال: "إنا امة أمية لا نكتب، ولا نحسب، صوموا لرؤيته؛ وأفطروا لرؤيته". والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فهو مخطىء في العقل، وعلم الحساب. فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلاً؛ لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره. وقد يراه بعض الناس لثمان درجات، وآخر لا يراه لثنتى عشر درجة؛ ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعاً مضطرباً، وأئمتهم: كبطليموس، لم يتكلموا في ذلك بحرف، لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي. وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم، مثل كوشيار الديلمي، وأمثاله. لما رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه الرؤية، وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة، بل خطؤها كثير، وقد جرب، وهم يختلفون كثيراً: هل يرى؟ أم لا يرى؟ وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطأوا طريق الصواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح، كما تكلمت على حد اليوم أيضاً، وبينت أنه لا ينضبط بالحساب؛ لأن اليوم يظهر بسبب الأبخرة المتصاعدة، فمن أراد أن يأخذ حصة العشاء من حصة الفجر، إنما يصح كلامه لو كان الموجب لظهور النور وخفائه مجرد محاذاة الأفق التي تعلم بالحساب. فأما إذا كان للأبخرة في ذلك تأثير، والبخار يكون في الشتاء والأرض الرطبة أكثر مما يكون في الصيف والأرض اليابسة. وكان ذلك لا ينضبط بالحساب، فسدت طريقة القياس الحسابي. ولهذا توجد حصة الفجر في زمان الشتاء أطول منها في زمان الصيف. والآخذ بمجرد القياس الحسابي يشكل عليه ذلك، لأن حصة الفجر عنده تتبع النهار وهذا أيضاً مبسوط في موضعه، والله سبحانه اعلم. وصلى الله على محمد.

المصدر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي، ج25 ص202 - 208، ط: دار عالم الكتب – الرياض.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير