وإن كان ذلك كذلك فإجماع منخرم، قال النووي في (شرحه على صحيح مسلم) [5/ 218]: ((وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل لهم أقوال .... )). قلت: سيأتي بيان ذلك.
ثانياً: إن المتأمل المدقق المحقق في كلام الترمذي، يجده أعطى لنفسه فسحةً في إطلاق الكلام، وهذا من علامات إخلاصه رحمه الله، فلا يطلق الكلام على عواهنه.
فتأمل قوله من جديد، وخاصة: ((وقد أخذ به بعض أهل العلم، ما خلا حديثين:))، إذاً لا يدعي أن كلَّ ما في الكتاب متفق على العمل به، وهكذا العالم لا يرى نفسه شيئاً.
وأقول: ومفهوم كلامه: ((أن البعض الآخر من أهل العلم لم يأخذ بكل ما في الكتاب، وقد أخذ بالحديثين الذي استثناهما))، وهذا لا يعيب من عمل الترمذي، ولا ينقص من قدر الكتاب - كما لا يخفاك - فأبى اللهُ العصمةَ إلا لكتابه.
وبناءً على ذلك؛ فقد انتخبت بعض الفوائد حول هذا الحديث من كتب علمائنا، محلاة بالعزو إلى مصادرها، فدونك:
1 - الحديث عند مسلم وفيه التصريح بـ ((غير خوف ولا مطر))، وتكلم بعض أهل العلم في أحد رجال إسناده وهو: (حبيب بن أبي ثابت) حتى قال الإمام الخطابي: ((إسناده جيد)) اهـ (معالم السنن) [1/ 265].
قلت: حبيب بن أبي ثابت: ثقة فقيه جليل، كان كثير الإرسال، كما في التقريب، وتوبع حبيب بن أبي ثابت، تابعه أبو الزبير (غير لفظة في المتن، فتأمل) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لم فعل ذلك فقال سألت بن عباس كما سألتني فقال أراد أن لا يحرج أحداً من أمته)).رواه مسلم في (صحيحه) [1/ رقم: 705] من طريق مالك، وهو في (الموطإِ) [1/ رقم:330].
2 - هذه اللفظة: ((من غير خوف ولا سفر))؛ قال الإمام مالك عقب إخراجه للحديث: ((أرى ذلك كان في مطر)) (الموطأ) [ص: 144].
3 - وتعقب مالكاً ابنُ المنذر فقال: ((فإن تكلم متكلم في حديث حبيب وقال لا يصح يعني المطر قيل قد ثبت من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله لما قيل له: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته ولو كان ثم مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس عن السبب الذي جمع بينهما فلمَّا لم يذكره وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أمته دل على أن جمعه كان في غير حال المطر وغير جائز دفع يقين ابن عباس مع حضوره بشك مالك)) اهـ (الأوسط) [2/ 432].
4 - والمتأمل أيضاً في كلام الترمذي يجده، لم يذكر علةً حديثية لحديث ابن عباس، اللهم إلا أنه أردفه في (السنن) بحديث يعارضه فقال: حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف البصري حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر)) قال أبو عيسى: وحنش هذا؛ هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره، والعمل على هذا عند أهل العلم؛ أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة، ورخص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض؛ وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم يجمع بين الصلاتين في المطر؛ وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، ولم ير الشافعي للمريض أن يجمع بين الصلاتين)) اهـ (السنن) [1/ رقم:188].
5 - قلت: الحمد لله؛ هو نفسه ضعف الحديث بـ (حنش) وأما قوله: (والعمل على هذا عند أهل العلم؛ أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة)، فأقول: هذا هو الراجح عنده، أما غيره فلا ...
6 - قال ابن المنذر: (( ... وقالت طائفة الجمع بين الصلاتين في الحضر مباح وإن لم تكن علة، قال: لأن الأخبار قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين بالمدينة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بينهما في المطر، ولو كان ذلك في حال المطر لأُدي إلينا ذلك، كما أُدي إلينا جمعه بين الصلاتين، بل قد ثبت عن ابن عباس الراوي بحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر؛ لما سئل لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته، ثم قد روينا مع ذلك عن ابن عباس في العلة التي توهمها بعض الناس؛ ... ثم ذكر حديث حبيب بن أبي ثابت سالف الذِّكر، وأردفه بحديث أبي الزبير
¥