قلت: و لا شك أن المعنى الأول هو المراد. لأن الحديث صريح في النهي عن " التحلق "، و رسول الله صلى الله عليه و سلم هو أفصح مَن نطق. و " التحلق " عند العرب هو الجلوس جماعات مستديرة. قال في " تاج العروس " (1/ 6264): تَحَلَّقوا: إِذا جَلَسُوا حَلْقَةً حَلْقَةً، منه الحَدِيثُ: " نهى عن التحلّق قَبْلَ الصَّلاة ". و في " لسان العرب " (10/ 58): الحِلَقُ - بكسر الحاء و فتح اللام - جمع الحَلْقة مثل قَصْعة و قِصَعٍ، و هي الجماعة من الناس مستديرون كحلْقة الباب و غيرها. و التَّحَلُّق تفَعُّل منها، و هو أَن يتَعمَّدوا ذلك. و تَحلَّق القومُ جلسوا حَلْقة حَلْقة.اهـ
قلت: نفهم مما سبق أن المراد من " التحلق " المنهي عنه في الحديث، هو التوزع في حلق كثيرة مبثوثة. و قد ورد ذلك صريحا، و هو بلفظ " النهي عن الحِلَقِ " - على الجمع -. و هذا أمر له نظائر في السنة، ففي " صحيح " مسلم (996) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: " ... ثم خرج علينا فرآنا حِلَقًا فقال: «ما لي أراكم عزين». قال: ثم خرج علينا فقال: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟». فقلنا: يا رسول الله و كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمون الصفوف الأول و يتراصون فى الصف».
قوله (عزين)؛ مفردها عزة و هي الجماعة المتفرقة و المراد ما لي أراكم أشتاتا متفرقين.
و كثرة الحِلَق وقت الصلاة - و إن كانت للمذاكرة، إلا أن يكون المسجد واسعا – يفسد نظم الصفوف و يشوش على سكينة المكان.
فالنهي في الحديث – على هذا الوجه - إنما هو عن هيئة الإجتماع، و ليس عن مضمونه، و هذا ظاهر.
و على كلٍّ، فإن المعنى من الحديث معقول؛ و هو صيانة المساجد مما لم تُبنَ له و تنزيهها عما لا يليق بها. و لذلك قُرن التحلق - هنا - بالبيع و الشراء، و تناشد الأشعار، و نشدان الضالة. و هي أمور كلها تجتمع في كونها دنيوية، يحدث بتعاطيها اللغط و الإضطراب.
فنشدان الضالة: طلبها و السؤال عنها.
يقال: نشد الضالة أي نادى وسأل عنها و طلبها، و هو من النشد رفع الصوت، و الضالة تطلق على الذكر و الأنثى، و الجمع ضوال كدابة و دواب، و هي مختصة بالحيوان الضائع، و يقال لغير الحيوان ضائع و لقيط. اهـ
و في نشدانها إشغال للمصلين و إحواج بعضهم إلى الكلام بغير ذكر الله تعالى. و عادة ما ينجر وراء الموضوع من يسأل عن أوصاف الضالة، فيتعدى الأذى إلى باقي المصلين.
و أما تناشد الأشعار: فكما قال السندي في حاشيته على " ابن ماجة " (2/ 156):
و هو أن ينشد كل واحد صاحبه شعرا لنفسه أو غيره افتخارا أو مباهاة أو على وجه التفلة.
قلت: ينبغي أن نتنبه إلى أن لفظ الحديث في أكثر الروايات: النهي عن " تناشد " الأشعار، و معلوم أن ما كان على صيغة (تفاعل) فإنه يقتضي وقوع الفعل من أكثر من واحد. و هذا المعنى لا يتناول إنشاد الشعر من جهة واحدة كما وقع لحسان رضي الله عنه. فالمنهي عنه إنما هو (التناشد) و (الأشعار)، أي الإكثار منه حتى يغلب على غيره، وحتى يخشى منه كثرة اللغط و الشغب مما ينافي حرمة المساجد، و هذا غير إنشاد بعض القصائد.
و أما البيع و الشراء: فمفسدة تعاطيه في المسجد أظهر من أن تبيّن، و أقبح من أن يحذر منها. و لذلك ورد في صحيح مسلم (1002) عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ليلني منكم أولوا الأحلام و النهى ثم الذين يلونهم - ثلاثا - و إياكم و هيشات الأسواق»
قال الإمام البغوي (ج 18 / ص 376): هيشات الأسواق: ما يكون فيها من الجلبة و ارتفاع الأصوات و الفتن، من الهوش، و هو الإختلاط. اهـ
و قال الشيخ عبد المحسن عباد في " شرحه على سنن أبي داود " (1/ 2):
المقصود به: اللغط و الكلام الذي لا قيمة له مما يكون في الأسواق، وكذلك الكلام الذي لا يليق، فإن هذا هو المقصود بهيشات الأسواق، فيمنع ذلك في المساجد؛ لكون الأسواق فيها رفع للأصوات، و فيها اللغط، وفيها الكلام الذي لا ينبغي، و كل هذا مما تنزه و تصان عنه المساجد. اهـ
قلت: و على الرغم من استقباح تلك الخصال في المساجد – أعني نشد الضالة و إنشاد الشعر و البيع و الشراء - إلا أن الإختلاف في حكمها معتبر بين الأئمة.
و الحاصل أن النهي الوارد في حديث عمرو بن شعيب لا يتناول الدرس الذي نحن بصدد بحثه بأي وجه من الوجوه، و هو أخص من الدعوى. و هذا أمر قد أقر به حتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، (و لعله لذلك السبب لم يستدل بالحديث على ما ذهب إليه) حيث سئل (7821): ما حكم التحلق في المسجد قبل صلاة الجمعة؟
فأجاب – رحمه الله - بقوله: ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن التحلق يوم الجمعة، و ذلك لأن التحلق يوم الجمعة يؤدي إلى تضييق المسجد على المصلين القادمين إليه، لاسيما إذا كانت الحلق قريباً من كثرة الحضور وكان المسجد ضيقاً، فإن ضررها واضح جداً، أما إذا لم يكن فيها محذور فإنه لا محظور فيها؛ لأن الشرع إنما ينهى عن أشياء لضررها الخالص أو الغالب. اهـ
قاله عبدالوهاب مهية
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=130471
منقول للفائدة
¥