و قد وجدتُ في السنة الصحيحة - و لله الحمد - ما يثبت تأصل هذا العمل و شرعيته. ففي " صحيح " مسلم (2062) و غيره: عن أبي رفاعة رضي الله عنه قال:
«انتهيت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم- و هو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدرى ما دينه - قال -: فأقبل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- و ترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى بكرسى حسبت قوائمه حديدا - قال -: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- و جعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها»
و قد ورد في إحدى الروايات بيان بعض ما علمه إياه؛ ففي " مسند الشهاب " للقضاعي (1138) و " السنن الكبرى " للبيهقي (ج 5/ ص 335):
" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يخطب فقلت: يا رسول الله علمني؟ فذكر الحديث، قال: وكان في آخر ما حفظت أن قال: إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا أبدلك الله به ما هو خير منه! "
قال النووي رحمه الله في " شرحه " على مسلم (6/ 165): وقعوده صلى الله عليه و سلم على الكرسي ليسمع الباقون كلامه ويروا شخصه الكريم. اهـ
و ترجم عليه الإمام ابن خزيمة في " صحيحه " (2/ 355) باب: إباحة قطع الخطبة ليعلم بعض الرعية.
و قال العلامة الأثيوبي في " ذخيرة العقبى " (16/ 261): ففيه قطع النبي صلى الله عليه و سلم خطبته لتعليم هذا الرجل، و هو قطع طويل، فالحق أن القطع للحاجة جائز، و لا يلزمه بذلك استئنافه، بل يستمر من حيث وصل.اهـ
قلت: الحديث هذا حديث عظيم، فيه فقه كبير، حيث أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكتف بتعليم السائل في خطبته، و كان ذلك أيسر من قطعها و إخلال نظمها، و كان بإمكانه أن يعلمه مكانه، و لكنه تجشم النزول من على المنبر، و أمر بكرسي فوضع مكانا من المسجد، ليعطي انطباعا أن تلك الوضعية غير التي كان عليها في المنبر.
فإذا كان هذا أثناء الخطبة، أليس من باب أولى مشروعية ذلك قبل الخطبة. و إذا كان هذا من أجل رجل واحد، أليس من باب أولى في حق أمة كثيرة من الناس يجهلون كل شيء تقريبا عن الدين. فهل من الحكمة ترك هؤلاء هملا و أنت تعلم من حالهم ما تخشى أن تحاسب عليه يوم القيامة؟ أم أنك تقتدي بنبيك محمد صلى الله عليه و سلم، فتأمر بكرسي فتجلس فيه فتعلمهم مما علمك الله؟
قال المقري: قلت كم من مرة أنك تقلب الحقائق و إلا كيف تدعي أولوية مشروعية الدرس قبل الخطبة من مشروعية الوعظ في أثناء الخطبة. ولو كان لك تمييز لتذكرت بأن خصمك قد منع من الدرس قبل الخطبة لما فيه من تشويش على القارئ و الذاكر و المصلي. و ليس أثناء الخطبة تال و لا ذاكر و لا مصلي إلا أن يدخل فلا يجلس حتى يصلي ركعتين و جواز كلام الخطيب في هذه الحالة مخصوص بالنص في ذلك، لا بالهوى و الدعوى و التنقص من قدر من هم أفقه منك بدرجات، لا لشيء إلا لأنهم صكوا بالحق وجهك و سفهوا أفكارك العفنة و ألقوا بقياسك في الحش كما كان يفعل السلف الصالح و التابعون لهم بإحسان.
وهؤلاء الذين تطعن فيهم هم خير خلف لخير سلف نشهد لهم أنهم عاشوا وماتوا يدافعون على نشر عقيدة السلف و فهمهم للدين باتباع الكتاب و السنة كما تعيش الآن لمحاربة السنة و نشر البدعة و أنا متأكد من بغضك لهم لذلك. إذ لو كنت مجرد معتقد لجواز الدرس لناقشت بأسلوب علمي دون التنقص و الطعن فيهم و لينصرن الله من ينصره.
ثم إن ما جئت به قد تحاشيت فيه الكلام عن شرطي عدم قيام المقتضى و عدم وجود المانع، و لا أظن أن ذلك إلا لعجزك عن تبيين عدم توفرهما.
و الصحيح أن مقتضى الوعظ كان موجودا منذ بعثته عليه السلام. و لا مانع له عليه السلام من الدرس قبل الجمعة.
إذا فبتحقق هذين الشرطين مع عدم قيامه عليه السلام بما تحاول الدفاع عن مشروعيته، تكون قد حكمت بنفسك ببدعية درس الجمعة وكفيتنا نفسك وكفى الله المومنين القتال. و الشيخ العثيمين – رحمه الله - نفسه علق على هذا الحديث في " شرحه " على " رياض الصالحين " فقال:
¥