فأما ما روي أن السيل احتمله في عهد عمر، فتحرى عمر إعادته في مكانه، فكأن عمر لما أخره قبل ذلك تحرى أن يبقى مع تأخيره مسامتا للموضع الذي كان يليه من جدار الكعبة، لا يميل عنه يمنة أو يسرة، لأن المعنى المذكور إنما أوجبه التأخير فاقتضى عليه، فلما احتمله السيل بعد ذلك تحرى عمر إعادته إلى مكانه لأجل المسامتة 0
وعلى القول بأنه أخر قبل عمر فتحريه إعادته إلى مكانه قد تكون لما ذكر، وقد تكون لأنه لم يكن [هناك] داع لتحويله، لأنه لم يكن قد حصل التضييق 0
وعلى ما ذكر فإذا أخر الآن فينبغي أن لا يخرج به عن مسامتة الموضع الذي يسامته الآن من الكعبة، لا يميل عنه يمنة ولا يسرة 0
وقد يمكن الجمع بين تهيئة المطاف والمحافظة على موضع المقام في الجملة، بأن يهدم البناء ويعلم موضع المقام بعلامة ثابتة، ثم يوضع في صندوق ثقيل وتجعل له ظلة خفيفة عل عجل، ففي أيام الموسم يؤخر الصندوق بالظلة إلى حيث تدعو الحاجة – مع المحافظة على السمت -، ثم عند زوال الموجب يعاد إلى موضعه الآن 0
وكالحكم في المطاف الحكم في المسعى، أمر الله عزوجل بالسعي بين الصفا والمروة يوجب تهيئة موضع يسعى الناس فيه يكون بحيث يكفيهم، فإذا اقتصر من مضى على موضع يكفي الناس في عصرهم، ثم ضاق بالناس فصار لا يكفيهم وجب توسعته بحيث يكفيهم، وإذا وسع الآن بحيث يكفي الناس فقد يجئ زمان يقتضي توسعته أيضا 0
هذا وقد جرى تغيير للمسعى في بعض جهاته في زمن المهدي العباسي، ففي تاريخ الأزرقي ج2 ص59 - 60، في زيارة المهدي سنة 160 فما بعدها ((ودخلت أيضا دار خيرة بنت سباع الخزاعية، بلغ ثمنها ثلاثة وأربعين ألف دينار دفعت إليها، وكانت شارعة على المسعى يومئذ قبل أن يؤخر المسعى)) 0
وفيه ص63 في ذكر زيارة المهدي الثانية ((وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم)) 0
وفيه ص64 ((واشتروا الدور وهدموها، وهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العائدي، وجعلوا المسعى والوادي فيها ... )) 0
ويشهد لهذا انحراف المسعى في ذاك الموضع، وكأنه كان قبل ذلك على خط مستقيم بين الصفا والمروة، أو أدنى إلى الإستقامة 0
وذكر القطبي في تاريخه ص47 من الطبعة الآولى هذا التحويل ثم قال ((وهنا إشكال لم أر من تعرض له وهو أن السعى بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله علينا في ذلك المحل المخصوص، ولا يجوز لنا العدول عنه، ولا تعتبر تلك العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وعلى ما ذكره هؤلاء الثقات ادخل ذلك المسعى في الحرم الشريف، وحول المسعى إلى دار ابن عباد كما تقدم، وأما المكان الذي يسعى فيه الآن فلا يتحقق انه بعض من المسعى الذي سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره، فكيف يصح السعي فيه وقد حول عن محله كما ذكر هؤلاء الثقات؟
ولعل الجواب عن ذلك أن المسعى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عريضا، وبنيت تلك الدور بعد ذلك في عرض المسعى القديم، فهدمها المهدي وادخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم تحول تحويلا كليا وإلا لأنكره علماء الدين من العلماء المجتهدين - رضي الله عنهم أجمعين – مع توفرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والإمام مالك موجودين يومئذ، وقد اقروا ذلك وسكتوا، وكذلك من صار بعد ذلك الوقت في رتبة الإجتهاد كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل،وبقية المجتهدين فكان إجماعا ......
وبقي الإشكال في جواز إدخال شيء من المسعى في المسجد، وكيف يصير ذلك مسجدا، وكيف حال الاعتكاف فيه؟
وحله بأن يجعل حكم المسعى حكم الطريق فيصير مسجدا ويصح الاعتكاف فيه، حيث لم يضر بمن يسعى، فاعلم ذلك، وهذا مما انفردت ببيانه ولله الحمد))
أقول: أما أول كلامه فيكفي في الجواب عنه الاعتبار بالمطاف، للاتفاق على صحة الطواف فيما زيد في المسجد في غير الموضع الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والذي كان في عهده لا يجوز الطواف إلا فيه 0
أما حدسه أن المسعى كان عريضا فبنيت فيه الدور، فيخدش فيه أن المسعى لو كان محددا لبعد أن يجترئ الناس على البناء فيه، وأمرهم العلماء والأمراء حتى يشتري المهدي منهم تلك الدور بأغلى الأثمان 0
¥