[مدارك الاستدلال والنظر ج2 لشيخنا أبي إسحاق الزواوي الجزائري]
ـ[ابو البراء]ــــــــ[03 - 04 - 08, 12:16 ص]ـ
المبحث الثاني: حجية الاستدلال.
لم نقف عند دراستنا هذه على من ذكر الاستدلال وحجيته باستثناء صاحب "البرهان"، وتابعه في ذلك أبو المظفر السمعاني فأعاد رسم ما ذكره الجويني بأسلوبه الخاص, ولم يزد إلا أن تعقبه في مواضع محصورة، أما غيرهما من الأصوليين فلا تكاد تجد عبارة في حجية الاستدلال, ولعل ذلك راجع إلى اكتفائهم بالأدلة التي اعتادوا ذكرها عند إثبات حجية القياس على منكريه, إذ جلها يصلح أن يكون دليلا في هذا الباب, علما أن الأصوليين يرون بأن الاستدلال نفس القياس, إلا أن "القياس بلفظ موجز محرر, والاستدلال بلفظ مبسوط ([1]) ".
واعتذار آخر يمكن سوقه في هذه المقدمة هو أنهم لما اختلفوا في صور من صور الاستدلال وفي جوار الأخذ بها فإنهم وفروا الجهد وأعملوا القريحة ونصبوا الأدلة في تلك المواضع التي نازعهم فيها المخالف، ولما لم تكن دراستنا هذه موضوعة لكل جزئيات الاستدلال, فإننا قد نكتفي هنا بذكر مذاهب العلماء في الاستدلال بعبارات موجزة ومهذبة مقتبسة من "القواطع" و"البرهان".
وقد اختلف الأصوليون في الاستدلال على ثلاثة مذاهب:
v [ المذهب الأول]:
ذهب جماعة إلى رد الاستدلال, وقالوا لا يجوز أن يكون المعنى دليلا حتى يستند إلى أصل، وقد ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني ([2]) وجماعة من المتكلمين ([3]).
v [ المذهب الثاني]:
ذهب الشافعي وطائفة من أصحا ب أبي حنيفة إلى اعتبار الاستدلال حجة وإن لم يستند على أصل, ولكن من شرطه قربه من معاني الأصول المعهودة ([4]).
v [ المذهب الثالث]:
أنه يجوز اتباع وجوه الاستصلاح والاستصواب, قربت من موارد النص أو بعدت, إذا لم يصد عنها أصل من الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع ([5]).
وحكاه أبو المظفر مذهبا لمالك, فقال"وأفرط مالك في جواز القول بالاستدلال, وجوز مصالح بعيدة عن المصالح المعهودة والأحكام المعروفة في الشرع ([6]) ".
وكلام الجويني وأبي المظفر منصب على الاستصلاح, أو بالأحرى على "المصالح المرسلة" التي أخذ بها مالك رحمه الله، فالخلاف بين أصحاب المذهبين الأخيرين ليس في حجية الاستدلال وإنما في وجوه الاستدلال, وفي حدوده التي لا يجوز الخروج عنها، ولذا نرى أنه قد يكتفى بذكر دليل الفريق الأول والثاني دون الثالث لاندراج أدلته مع ما قبله.
v [ أدلة الفريق الأول] ([7]):
وحجة أبي بكر الباقلاني ومن وافقه ما يلي:
أولا: الدلائل محصورة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس على أحدها، والاستدلال الذي يذكرونه خارج عن هذه الأقسام.
ثانيا: المعاني التي حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع، وعدم اشتراط استنادها إلى الأصول يجعلها غير منضبطة، فيتسع الأمر، ويصير الشرع بذلك راجعا إلى وجوه الرأي من الناس، فيفعل كل إنسان ما يراه ويعتقده مما يؤدي إلى إبطال أبَّهةِ الشريعة ورونقها، ويُذهب طراوتها وبهاءها، وينسكب ماؤها، ثم تختلف بعض تلك المصالح باختلاف الناس والزمان والمكان وتختلف أحكام الله غاية الاختلاف، فيكون حكم الله اليوم خلاف ما كان عليه الأمس، وما أدى إلى هذا القول فهو باطل.
ثالثا: إن مُعاذًا ([8]) tلم يذكر إلا الكتاب والسنة والقياس فدل ذلك على بطلان غيرهما من الأدلة.
v [ أدلة الفريق الثاني] ([9]):
احتج أصحاب الفريق الثاني على صحة مذهبهم بما يلي:
أولا: نعلم قطعا أنه لا تخلو حادثة عن حكم الله تعالى منسوب إلى شريعة محمد r بدليل أنه لم يرد
عن السلف أنهم أعروا حادثة أو واقعة عن بيان حكم الله فيها، ونحن نعلم كثرة الوقائع والفتاوى وازدحام الأحكام وهم على تعبير أبي المظفر "قد استرسلوا في بث الأحكام استرسال واثق بانبساطها على جميع الوقائع، وقد تصدوا لإثباتها فيما وقع، وتشوفوا إلى إثباتها فيما سيقع" ومن هذا كله فإنه لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما وسع القياس لكل ذلك، فإن المنصوصات ومعانيها لا تنسحب على كل الوقائع، ولزادت الأحكام المتوقف فيها على الفتاوى الصادرة منهم.
ثانيا: أن الصحابة لم يكونوا يقيسون على ما يفعله القائسون اليوم، بل كانوا يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى أصولٍ، كانت أو لم تكن.
¥