فإذا وجدت هذه الشرائط دلت على صحة المرسل وأنه له أصلاً، وقبل واحتج به.
ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة، فإن المرسل وإن اجتمعت فيه هذه الشرائد فإنه يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذاً عن غير من يحتج به.
ولو عضده حديث متصل صحيح، لأنه يحتمل أن لا يكون أصل المرسل صحيحاً.
وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما واحداً وأن يكون كتلقى عن غير مقبول الرواية.
وإن عضده قول صحابي فيحتمل أن الصحابي قال برأيه من غير سماع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا يكون في ذلك ما يقوي المرسل، ويحتمل أن المرسل لما سمع قول الصحابي ظنه مرفوعاً فغلط ورفعه، ثم أرسله ولم يسم الصحابي. فما أكثر ما يغلط في رفع الموقوفات.
وإن عضده موافقة قول عامة الفقهاء فهو كما لو عضده قول الصحابي وأضعف، فإنه يحتمل أن يكون مستند الفقهاء اجتهاداً منهم، وأن يكون المرسل غلط ورفع كلام الفقهاء، لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جداً.
وقال الشافعي أيضاً في كتاب الرهن الصغير وقد قيل له: كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولا تقبلوه عن غيره؟.
قال: ((لا نحفظ لابن المسيب منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديد، ولا أثر عن أحد عرفنا عنه، إلا عن ثقة معروف، فمن كان مثل حاله قبلنا منقطعه)).
وهذا موافق لما ذكره في الرسالة، فإن ابن المسيب من كبار التابعين، ولم يعرف له رواية عن غير ثقة، وقد اقترن بمراسيله كلها ما يعضدها.
وقد قرر كلام الشافعي هذا البيهقي في مواضع من تصانيفه كالسنن، والمدخل، ورسالته إلى أبي محمد الجوبني، وأنكر فيها على الجوبني قوله: ((لا تقوم الحجة بسوى مرسل ابن المسيب)) وأنكر صحة ذلك عن الشافعي، وكأنه لم يطلع على رواية الربيع عنه التي قدمنا ذكرها.
قال البيهقي: ((وليس الحسن وابن سيرين بدون كثير من التابعين، وإن كان بعضهم أقوى مرسلاً منهما، أو من أحدهما، وقد قال الشافعي بمرسل الحسن حين اقترن به ما يعضده في مواضع، منها: النكاح بلا ولي، وفي النهي عن بيع الطعام حتي يجري فيه الصاعان، وقال بمرسل طاوس، وعروة، وأبي أمامة بن سهل، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وابن سيرين، وغيرهم من كبار التابعين حين اقترن به ما أكده، ولم يجد ما هو أقوى منه، كما قال بمرسل ابن المسيب في النهي عن بيع اللحم بالحيوان، وأكده بقول الصديق، وبأنه روي من وجه آخر مرسلاً، وقال: ((مرسل ابن المسيب عندنا حسن)).
ولم يقل بمرسل ابن المسيب في زكاة الفطر بمدين من حنطة. ولا بمرسلة في التولية قبل أن يستوفي. ولا بمرسلة في دية المعاهد.
ولا بمرسلة ((من ضرب إباه فاقتلوه))، لما لم يقترن بها من الأسباب ما يؤكدها، أو لما وجد من المعارض لها ما هو أقوى منه)) انتهى ما كذره البيهقي.
وأما مرسل أبي العالية الرياحي في الوضوء من القهقهة في الصلاة فقد رده الشافعي وأحمد، وقال الشافعي: ((حديث أبي العالية الرياحي رياح))، يشير إلى هذا المرسل. وأحمد رده بأنه مرسل، مع أنه يحتج بالمراسيل كثيراً، وإنما رداً هذا المرسل لأن أبا العالية وإن كان من كبار التابعين فقد ذكر ابن سيرين أنه كان يصدق كل من حدثه، ولم يعضد مرسله هذا شئ مما يعتضد به المرسل، فإنه لم يرو من وجه متصل صحيح بل ضعيف، ولم يرو من وجه آخر مرسل، إلا من وجوه ترجع كلها إلى أبي العالية.
وهذا المعنى الذي ذكره الشافعي من تقسيم المراسيل إلى محتج به وغير محتج به يؤخذ من كلام غيره من العلماء، كما تقدم عن أحمد وغيره تقسيم المراسيل إلى صحيح وضعيف.
ولم يصحح أحمد المرسل مطلقاً، ولا ضعفه مطلقاً، وإنما ضعف مرسل من يأخذ عن غير ثقة، كما قال في مراسيل الحسن وعطاء: ((هي أضعف المراسيل، لأنهما كانا يأخذان عن كل)).
وقال أيضاً: ((لا يعجبني مراسيل يحيى بن أبي كثير، لأنه يروي عن رجال ضعاف صغار)).
وكذا قوله في مراسيل ابن جريج وقال: ((بعضها موضوعة)).
وقال مهنا قلت لأحمد: ((لم كرهت مرسلات الأعمش.قال: كان الأعمش لا يبالي عمن حديث)).
وهذا يدل على أنه إنما يضعف مراسيل من عرف بالرواية عن الضعفاء خاصة.
¥