مما ترتب عنه انحرافات في المنهج والمنهجية، ابتداء بإهمال أصل العلوم كتاب الله تعالى، فلم يعتنوا بضبطه، ولا بفهم معانيه، ولا وقفوا على أحكامه، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه، كما تركوا أيضا السنن والآثار، وزهدوا فيها، وأضربوا عنها، فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف، بل عوّلوا على حفظ ما دوّن لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند أئمتهم.
فكانت النتيجة الإفراط في حفظ المولّدات والفروع من غير اهتمام بضبط أصولها.
قال رحمه الله: (واعلم يا أخي أن الفروع لا حد لها تنتهي إليه أبدا، ولذلك تشعبت، فمن رام أن يحيط بآراء الرجال فقد رام ما لا سبيل له ولا لغيره إليه؛ لأنه لا يزال يرد عليه ما لا يسمع، ولعله أن ينسى أول ذلك بآخره لكثرته، فيحتاج أن يرجع إلى الاستنباط الذي كان يفزغ منه ويجبن عنه تورعا بزعمه أن غيره كان أدري بطريق الاستنباط منه، فلذلك عول على حفظ قوله.
ثم إن الأيام تضطره إلى الاستنباط مع جهله بالأصول فجعل الرأي أصلا واستنبط عليه) " جامع بيان العلم وفضله ".
فكان بعضهم يستعظم أن يذهب للبحث عن دليل هذه الأقوال ثقة منهم بأسلافهم، وظنا منهم أنهم أعلم الناس بالدليل، فكان تفريطا مما ترتب عنه آفتين عظيمتين:
- الأولى: فصل المذهب عن أدلته والإعراض عنها تأليفا وتدريسا، فانفصل الفقه عن قلبه النابض، وهو فقه الكتاب والسنة.
الثانية: عزوف الدارسين عن هذه المصنفات ظنا منهم أنها غير صالحة لتحقيق المقصود، مما فوت عليهم العلم الغزير، وهذا هو لب قضيتنا التي نحن بصدد تأصيلها، والتي هي من جملة الخدمة المطلوبة للنهوض بالمذهب المالكي من خلال عرض أقوال أئمة المذهب وحفاظه على ميزان النصوص وردها إلى أصلها الأول دون تكلف.
فكم من كتاب ناقش المسائل الفقهية وتحريرات الفقهاء المجردة عن الدليل فكان فريدا في بابه من جهة الترتيب والتبويب والإيرادات والترجيحات، وهذا طبعا يفعل الجانب العلمي والمنهجي من عدة وجوه.
فنحن لسنا بصدد اتهام أسلفنا كما زعم بعض المغرضين ممن لا زاد لهم ولا متاع إلا ألسنة سليطة تجرهم للوقوع فيهم والنيل منهم، والحط من قدرهم وإنكار فضلهم.
معاذ الله أن نكون منهم، والمنصف من يبحث في حيثيات أحوالهم بمختلف مراحلها، فنلتمس لهم العذر لعل ذلك نتيجة ظروف وعوامل فرضتها، وأحوال اقتضتها، ليس هذا محل بيانها وتفصيلها.
ومن هنا ندرك يقينا كيف استطاع الفقه المالكي عندما أتى عليه حين من الدهر من العزوف عن الدليل والإعتكاف على الإختصار والحواشي والشروح الجافة لفك ألغازها وحل مغاليقها، أن يجد من متانة مصطلحه ما حماه من أن يفسد جوهره النقي، وأن يجد من ثروته الفكرية ما تفضل به على سواها فجاءت أصيلة محكمة خالية من التقعر والالتواء، فكانت سببا قويا وباعثا حثيثا لتجديد تصانيفه، بما يربط الأحكام بأدلتها، وبيان وجوه استثمارها وطرق تحقيق مناطها.
لذلك كان من الصواب أن نبرز زيف هذه الدعاوى فضلا عن إصلاحها.
فخدمة المذهب وتجديد معالمه من خلال بناء هيكلته وتحديد وجهته تعطيه القوة من جهة، وتسهم في انتشار المذهب وذيوعه من جهة أخرى، وهذه هي وظيفة التلاميذ وحفاظ المذهب، وما مذهب الليث بن سعد، وابن جرير الطبري والأوزاعي وغيره ببعيد. فقد ضاعت بسبب تقاعس التلاميذ والأتباع فلم يبقى منها إلا النزر القيل.
والدارس للمذهب المالكي في حلته الجديدة يدرك حقيقة هذه المسألة ومدى تأثيرها في تفعيل المذهب مما نتج عنه صيحة مدوية للعودة إلى الدليل فهذا حافظ المغرب أحمد بن صديق الغماري رحمه الله في مقدمة كتابه الموسوم " مسالك الدلالة " في تخريجه لرسالة ابن أبي زيد القيرواني يتأسف لقلة الاستدلال بالنصوص في كتب الفقه المالكي، خاصة المتأخر منها.
لهذا، ظهرت في الآونة الآخرة بوادر حركة الاستدلال الفقهي للإخضاع المسائل الفقهية إلى الدليل وتخريج أدلة المذهب من جهة، والدراسات المنهجية والعلمية للمسألة من جهة أخرى.
مما فتح الباب أما ثلة من الغيورين على المذهب أن يسلكوا هذا الاتجاه، فكانت جهودا مشكورة، لكنها غير كافية، لأن خدمة المذهب أحسبه مشروع أمة، لا أفراد.
وإليك بعض هذه النماذج:
- "مسالك الدلالة" للمحدث أحمد بن الصديق الغماري.
¥