الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد مضى بيان كيفية صلاة التراويح مع ذكر الخلاف الوارد في عددها، وبيان الراجح منه في الفتوى رقم: 11872. كما بينا خلاف العلماء في الترويحة التي تكون بين ركعات التراويح وموضعها من ركعات الصلاة، وذلك في الفتوى رقم: 28365. وخلاصة الأمر أن الجلوس للراحة بين ركعات صلاة التراويح أمر مشروع في الجملة، متوارث عن السلف الكرام، وشغل هذا الوقت بالذكر وتعلم العلم وتعليمه لا بأس به، بشرط ألا يُتخذ ذلك عادة دائمة فيحسبه الناس سنة من السنن. والله أعلم.
نصوص بعض الفقهاء في استثمار هذه الاستراحة للفائدة:
قال شيخي زاده في مجمع الأنهر: " (وجلسة بعد كل أربع بقدرها) أي بقدر أربعة من ركعاتها ولو قال: وانتظار بقدرها لكان أولى فإن بعض أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين وأهل المدينة يصلون بدل ذلك أربع ركعات وأهل كل بلدة بالخيار يسبحون أو يهللون أو ينتظرون سكوتا وإنما يستحب الانتظار لأن التراويح مأخوذ من الراحة فيفعل ما قلنا تحقيقا للمسمى " انتهى.
وقال المرداوي في الإنصاف: " ومنها: يستريح بعد كل أربع ركعات بجلسة يسيرة فعله السلف , ولا بأس بتركه , ولا يدعو إذا استراح , على الصحيح من المذهب , وقيل: ينحرف إلى المصلين ويدعو , وكره ابن عقيل الدعاء " انتهى.
وذكر ابن قدامة في كتاب التوابين قصة وفيها: " .. قدم أبو عامر البناني واعظ أهل الحجاز ووافق قدومه رمضان فسأله إخوانه أن يجلس لهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجابهم وجلس ليلة الجمعة بعد انقضاء التراويح واجتمع الناس وجاء الفتى فجلس مع القوم فلم يزل أبو عامر يعظ وينذر ويبشر إلى أن ماتت القلوب فرقا واشتاقت النفوس إلى الجنة .. " انتهى.
بعض النصوص المبينة والضابطة لحكم توقيت الوعظ، وتعليق بعض العلماء عليها:
روى البخاري في صحيحه في: (باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّجْعِ فِى الدُّعَاءِ)
عن ابْن عَبَّاس، أنَّهُ قَالَ لعكرمة: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلاثَ مِرَارٍ، وَلا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِى الْقَوْمَ، وَهُمْ فِى حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ، فَحَدِّثْهُمْ، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّى عَهِدْتُ النَّبِىّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ لا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ.
قال ابن الجوزي في كشف الْمُشكِل: " أعلم أن كل شيء يكثر على النفس تمله خصوصا المواعظ التي لاحظ للطبع فيها إلا أن يكون مجرد السماع وقد كان النبي {صلى الله عليه وسلم} يتخولهم بالموعظة مخافة السآمة " انتهى.
وفي البخاري أيضا من باب: (من جعل لأهل العلم أياما معلومة)
عن أبي وائل قال: "كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا"
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم (باب الاقتصاد في الموعظة)، رقم 2821
قال النووي في شرح مسلم: " ومعنى يتخولنا يتعاهدنا هذا هو المشهور فى تفسيرها قال القاضي وقيل يصلحنا وقال بن الأعرابى معناه يتخذنا خولا وقيل يفاجئنا بها وقال أبو عبيد يدللنا وقيل يحبسنا كما يحبس الانسان خوله وهو يتخولنا بالخاء المعجمة عند جميعهم إلا أبا عمرو فقال هي بالمهملة أى يطلب حالاتهم واوقات نشاطهم وفى هذا الحديث الاقتصاد فى الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها " انتهى.
وقال ابن حجر في الفتح: " وفيه رفق النبي صلى الله عليه و سلم بأصحابه وحسن التوصل إلى تعليمهم وتفهيمهم ليأخذوا عنه بنشاط لا عن ضجر ولا ملل ويقتدي به في ذلك فان التعليم بالتدريج اخف مؤنة وادعى إلى الثبات من اخذه بالكد والمغالبة " انتهى.
¥