فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن الصلاة عند القبور منهى عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.
فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبى عليه الصلاة والسلام بالنهى عن ذلك والتغليظ فيه.
فقد صرح عامة الطوائف بالنهى عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة.
وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعى بتحريم ذلك.
وطائفة أطلقت الكراهة.
والذى ينبغى أن يحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن فاعله والنهى عنه.
ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلى قال: سَمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ تعالى عليهِ وَآله وسلم قبل أنْ يَموتَ بخمْسٍ وَهوَ يقول: "إِنى أبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُون لِى مِنْكمْ خَلِيلا. فَإنَّ اللهَ تَعَالى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلا، كما اتّخَذَ إِبْرَاهِيم خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذا مِنْ أُمَّتىِ خَلِيلاً لاتّخَذْتُ أَبَا بكْرٍ خَليلا ألا وَإِنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ كانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلاَ تَتَّخِذوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فإِنى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذلِكَ".
وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لمّا نُزلَ بِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ: وَهُوَ كَذلِكَ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِوَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِم مَسَاجِدَ، يُحذرُ مَا صَنَعُوا" متفق عليه.
وفى الصحيحين أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم قالَ: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
وفى رواية مسلم: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد فى آخر حياته، ثم إنه لعن وهو فى السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ فى مَرَضِه الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، وَلَوْلا ذلِكَ لأبْرِزَ قَبُرهُ غَيْرَ أنَّهُ خُشِىَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً" متفق عليه.
وقولها: "خُشي" هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره. وروى الإمام أحمد فى مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ مِنْ شِرَار النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجدَ". وفى صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر، فقال: القبر، القبر.
وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضى الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور. وفعل أنس رضى الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه، فإنه لعله لم يره، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذهل عنه.
فلما نبهه عمر رضى الله تعالى عنه تنبه.
فروى مسلم فى صحيحه عن أبى مرثد الغنوى رحمه الله أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:"لا تجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلا تُصَلوا إِلَيْهَا".
وفى هذا إبطال قول من زعم أن النهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شئ عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة.
فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم فى قبورهم طريون.
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.
¥