أقول مستعيناً بالله تعالى:
اختلف العلماء قديماً و حديثاً في إيجاب زكاة الزيتون و غيره من أصناف الخارج من الأرض التي لم يُنَصَّ عليها في السنَّة، و مرد اختلافهم في هذه المسألة هو الاختلاف في تحديد العلة الموجبة لإخراج الزكاة في الأصناف المنصوص عليها.
و إيجاب الزكاة في الزيتون هو مذهب جمهور العلماء من الحنفية و المالكية، و هو مذهب الإمام الشافعي في القديم، و رواية عن الإمام أحمد، و هو المنقول عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما [كما في مصنف ابن أبي شيبة و غيرة]، و عن جمع من التابعين و من تبعهم بإحسان، رضوان الله عليهم أجمعين.
و استُدِلَّ لمذهب الجمهور بأدلَّة منها:
- أولاً: قوله تعالى: {وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
فقد ذكر سبحانه و تعالى الزيتون و أصنافاً أخرى من الزروع و الثمار، و عقَّب على ذلك كله بقوله: (وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) فلا يصح استثناء شيئ من تلك الأصناف إلا بدليل خاص يستثنيه، و ليس في كتاب الله و لا سنة رسوله ما يستثني الزيتون من وجوب إيتاء الزكاة يوم الحصاد في الأصناف المذكورة في الآية الكريمة.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: (اختلف الناس في تفسير هذا الحق، ما هو؛ فقال أنس بن مالك و ابن عباس و طاووس و الحسن و ابن زيد و ابن الحنفية و الضحاك و سعيد بن المسيب: هي الزكاة المفروضة، العشر و نصف العشر. و رواه ابن وهب و ابن القاسم عن مالك في تفسير الآية، و به قال بعض أصحاب الشافعي.
و قال علي بن الحسين و عطاء و الحكم و حماد وسعيد بن جبير و مجاهد: هو حق في المال سوى الزكاة، أمرَ الله به ندباً. و روي عن ابن عمر و محمد بن الحنفية أيضاً، و رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم. قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، و إذا جذذت فألق لهم من الشماريخ، و إذا درسته ودسته و ذريته فاطرح لهم منه، و إذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته.
و قول ثالث: هو منسوخ بالزكاة؛ لأن هذه السورة مكية و آية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة ... روي عن ابن عباس و ابن الحنفية و الحسن و عطية العوفي و النخعي و سعيد بن جبير. و قال سفيان: سألت السدي عن هذه الآية فقال: نسخها العشر و نصف العشر. فقلت: عمّن؟ فقال عن العلماء.
قلتُ: و سواء كان الحق الواجب المستفاد من الآية الكريمة هو الزكاة المعروفة، أو ما يندب إلى إخراجه من المحصول غير الزكاة فإنه مضاف إليها و ليس بديلاً عنها، بل تظل واجبة في الذمة، و الله أعلم.
- ثانياً: عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم: (فيما سَقَت السماء و العيون العُشر، و ما سُقي بالنضح نصف العشر) رواه البخاري و أصحاب السنن عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قلت: و نقول في توجيه الحديث ما قلناه في الآية الكريمة من عدم جواز تخصيص العام إلا بدليل، و ليس ثمة دليل على التخصيص.
- ثالثاً: محصول الزيتون يمكن ادِّخاره، و الناس يتمونون به حولاً كاملاً و بعضهم يزيد على الحول، لذلك ألحقه من قال بوجوب الزكاة فيه بالزبيب و التمر، باعتبار الادخار علَّةٌ جامعة تُرَجِّح القول بقياسه على سائر المدخرات من الثمار و الغلال.
و القول بوجوب الزكاة في الزيتون هو الراجح إن شاء الله، إذ تؤيده عمومات الأدلة الشرعية من الكتاب و السنة، وهذا ما أقرته الندوة الثامنة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة في الدوحة سنة 1418 للهجرة، حيث جاء في توصياتها القائمة على فتاوى و اجتهادات العلماء المشاركين: (وجوب الزكاة في كل ما تنتجه الأرض من الزرع و الثمار و الخضروات إذا بغت النصاب).
فإذا تقرر وجوب إخراج زكاة الزيتون فليُعلَم أن ذلك واجب بمجرد جني الثمار لقوله تعالى: (و آتوا حقه يوم حصاده)، و الواجب إخراجه نصف العُشر مما سقي بمؤونة سواء كان السقي بالمضخات، أو بماء الآبار المنقول أو غير المنقول، و عُشر ما سُقي بلا بمؤونة.
و لا تجب الزكاة فيما لم يبلغ النصاب و هو خمسة أوسق، لقوله عليه الصلاة و السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) رواه البخاري، و تعادل الأوسق الخمسة ثلاثاً و خمسين و ستمائة [653] كيلو إذا قوبل بالأوزان المعاصرة.
و بوسع المزكي أن يخرج الزكاة الواجبة في الزيتون حباً أو زيتاً، و توسَّع بعض أهل العلم فأجاز إخراج ثمن الواجب نقداً، و الأولى تخيير المزكي مع مراعاة اليسر و السهولة في حقه، و الأنفع و الأصلح للفقير المستحق للزكاة.
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: (فصلٌ: و الرطب الذي لا يتمر و الزيتون الذي لا يعصر، و العنب الذي لا يزبب، قال مالك و غيره: تخرج الزكاة من ثمنه إذا بلغ خمسة أوسق، و إن لم يبلغ ثمنه مائتي درهم، و إن كان يتناهى فبيع قبل تناهيه. فقيل: تخرج الزكاة من ثمنه، و قيل تخرج من حبه أو دهنه).
هذا، و الله أعلم و أحكم، و هو الهادي إلى سواء السبيل.
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين.
وكتب
د. أحمد بن عبد الكريم نجيب
{صيد الفوائد \الرابط ( http://www.saaid.net/Doat/Najeeb/f129.htm)}
¥