هذا يدل هذا على أن المعتبر هو تحصيل البينية بين الصفا والمروة حتى ولو كانت زائدة عن الذرع القديم، وهذا فيه كما ترى نقضٌ لمن استند إلى الإجماع القديم في عدم جواز التوسعة الحادثة؛ لأنه هو نفسه جوَّز توسعة أخرى حادثة تزيد عن الذرع القديم؛ بناء على حصول البينية بين الصفا والمروة، فترجع المسألة إلى تحرير مقدار هذه البينية ولو كانت زائدة على الذرع القديم الذي حكي الإجماع على اعتباره، وهذا يقتضي تحصيل إجماع المسلمين بعد كل توسعة حادثة، على جوازها ما دامت هي في مقدار البينية بين الجبلين، حتى ولو كانت زائدة على الذرع القديم الذي وقع الإجماع عليه.
وبهذه الإجماعات المتتالية نكون قد حصَّلنا إجماع المسلمين القطعي عبر القرون على جواز أي توسعة حادثة للمسعى ما دامت هي في حيز البينية بين الصفا والمروة.
ولهذا يقول الحافظ الفاسي:
"والظاهر – والله أعلم – إجزاء المسعى بموضع السعي اليوم، وإنْ كان تغيَّرَ بعضُهُ عن موضع المسعى قبله، لتوالي الناس من العلماء وغيرهم على السعي بموضع المسعى اليوم، ولا خفاء في تواليهم على ذلك."
قلت:
محل هذا الإجماع: هو نفس محل المسألة المختلف فيها اليوم، بينما الإجماعات المحكية عن أهل العلم في الذرع القديم إنما هي على صحة السعي في المسعى القديم، وهذا أمر متفقٌ عليه، وهو خارجٌ تماماً عن محل النزاع، وإنما يستدل به على منع التوسعة الحاضرة عن طريق المفهوم، وسبق نقض هذه الطريقة.
وبهذا يكون المجوّزون أسعد حظاً بالإجماع؛ لأن إجماعهم محصَّل بالإجماع العملي المستمر للمسلمين على السعي في المواضع التي تمت فيها التوسعة عبر التاريخ، مما يرفع المسألة إلى حكم القطع، بينما الإجماع الذي استند إليه المانعون إنما هو في محل الذرع القديم، وفي موضعٍ من السعي، لا في كل السعي، وفي أزمنة محددة، وفي محل متفقٌ عليه هو خارجٌ عن محل النزاع.
فيظهر بما سبق قوة الإجماعات العملية المستمرة للمسلمين على جواز التوسعة، وأنها أقوى وأقرب إلى المسألة الحاضرة في توسعة المسعى من تلك الإجماعات المحكية عن جماعة من أهل العلم على الذرع القديم.
ومع ذلك: فلن نركب الصعب فندَّعي الإجماع على جواز التوسعة الحادثة؛ لاحترامنا للقول الآخر، وتسليمنا بوقوع الخلاف اليوم بين المعاصرين، واحتمال أن تكون التوسعة السابقة قد استنفذت بينية جبلي الصفا والمروة.
وإنما أعملنا الإجماع معهم مناقضة، بمعنى إن استدلوا بالإجماع على السعي القديم، ذكرنا لهم الإجماعات المتتالية على كل توسعت حصلت على مر الأزمنة، ولو خالفت المساحة قبلها، وأن هذا الإجماع هو أولى وأقرب إلى مسألتنا من الإجماع الذي تمسَّكوا به واستصحبوه ههنا.
واليوم يجوز أن يجمع الناس على هذه التوسعة الحاضرة، ويجوز أن يختلفوا، والواقع أنهم اختلفوا، وحينئذٌ تحال المسألة ضرورة إلى تحرير البينية بين الصفا والمروة إلى حين أن يجمعوا عليه ضرورة كما هو شأنهم في كل توسعة حدثت.
ولهذا احتاط فقد بعض المؤرخين المعاصرين ممن شارك في التوسعة السعودية القديمة في عهد الملك سعود فنبه إلى: "أن يبتعد الساعي عن الجدار الشرقي الحالي بمسافة مترين تقريباً حتى يحتاط المسلم لعبادته! "
ولقد كان هذا المحتاط مطرداً مع قاعدة بعض المعاصرين في عدم جواز التوسعة الحادثة التي تزيد عن المقدار المحدد، إلا أن المعاصرين لم يلتفتوا إلى المقدار الزائد في عهد الملك سعود كما احتاط ذلك الرجل، بل كانوا في جملة المجمعين على تلك التوسعة الحادثة، مع ما فيها من زيادة عن المسعى القديم!.
ونقول: ما الفرق بين تلك الزيادة، وبين الزيادة اليوم؟ ولماذا جازت تلك، ولم تجز هذه؟
السبب الرابع في عدم صحة الإجماع على منع توسعة المسعى:
كما قد وقع التوسع في عرض المسعى؛ فإنه قد وقع أيضاً التوسع في طوله فقد قال الكردي وهو يتحدث عن تكسير جبل الصفا سنة 1377هـ.:
(فمما لاشك فيه أن هذا الجزء المأخوذ من جبل الصفا في زماننا هذا، والمدخول في حدود المسعى لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام قد سعوا في هذا الجزء المستحدث اليوم، فعلى هذا لا يجوز السعي في هذا الجزء المأخوذ الآن من هذا الجبل ... ، فمن أراد الاحتياط لدينه والبراءة لذمته فليترك من جدار المسعى فيما بين الصفا والمروة نحو مترين. نقول هذا احتياطاً لديننا وتبرئة لذمتنا، فالنصيحة واجبة لكافة المسلمين من الخواص والعوام).
أما نحن اليوم فلا يسع أحدنا إلا أن يقول: قد وقع بحمد الله الإجماع على صحة هذا المسعى بطوله، وإن كنا نسلم أن ثمة قدرا منه لم يكن موجوداً قبل تكسير الجبل في ثلاثة عشر قرنا، ولكن بما أنه يحصل معه البينية بين الصفا والمروة فإنه يكون مجزئا بدلالة الآية التي أجمع المسلمون على العمل بمقتضاها في الطول.
نقول: وليكن كذلك الأمر في العرض.
قلت: بل هو كذلك بدليل إجماعات المسلمين المتتالية على جواز توسعة المسعى ما دامت هي في حيز البينية.
ولنا حينئذ أن نحصِّل إجماعا هذا نصه:
يجوز بإجماع المسلمين العملي المستمر الزيادةَ في طول المسعى والزيادة في عرضه ما دامت الزيادة هي في حيز البينية بين الصفا والمروة.
وبهذا نستطيع أن نسقط بهذا الإجماع أي دعوى على عدم جواز التوسعة إلا أن يدعي مدع أنه جاوزت هذه التوسعة البينية بين الصفا والمروة فنرجع، وندير الحديث معه في مقدار هذه البينية.
وسبق في مستهل البحث أنه لم يستطع أحد أن يثبت مقداراً محددا لبينية جبلي الصفا والمروة لا من المجيزين ولا من المانعين، وأن كل ما ذكروه إنما هي إشارات، هذا فحسب.
وحينئذ تكون المسألة من قبيل الاجتهاد في تحديد هذه البينية بحسب الدلائل المقامة عليها، أما الإجماع فلا.
¥