4 - انحراف المسعى في الزمان القديم، فقد كان المسعى بين الصفا والمروة كما في رسمة محاكية قديمة ()، وكما هي شهادة المعلمي في ما قبل توسعة الملك سعود: منحرفاً ولم يكن بخط مستقيم، فقد كان منحرفا إلى الجهة الشرقية (عكس المسجد الحرام)، والمسجد الحرام يخترق المنطقة البينية بين الصفا والمروة على شكل زاوية من مساحته المربعة، ثم يعتدل مسار المسعى في منتصفه ويتجه إلى منتصف البينية بين الصفا والمروة، فكان أشبه ما يكون بقوس بمساحة ربع دائرة.
ويظهر فيها بشكل واضح أن مسار المسعى خارج عن مقدار البينية المرسومة بين الصفا والمروة، وأنه بشكل قاطع هو خارج عن المسار المستقيم الواقع الآن، وأن المسار المستقيم الواقع اليوم هو يقطع حدود المسجد الحرام القديم.
وحينئذ يكون مقدار ما تم الانحراف فيه عن أصل بينيية الصفا والمروة كبيرا:
إذ أدخل في زمن ما إلى المسجد الحرام [الجهة الغربية]، وهنا نراه في ما قبل توسعة الملك سعود منحرفاً باتجاه عكس المسجد الحرام [الجهة الشرقية]، وبهذا نعرف أن الانحراف عن أصل بينية الصفا والمروة قد وقع من الجهتين.
والرسمة مع قدمها إلا أنها دقيقة جدا حتى ذكر فيها أن مقياس كل 9 ميللي = 20 متر ..
وقد وضع المعلمي احتمالا أن المسعى كان قبل هذا الانحراف: بخط مستقيم.
قلت:
والأمر الآن كذلك هو بخط مستقيم منذ توسعة الملك سعود؛ وبناء على ذلك يمكن أن يقال: إن السعي بين الصفا والمروة مرَّ بعدة مراحل منها ما كان منحرفاً ولم يكن بشكل مستقيم، ومنها ما كان على شكل خط مستقيم، وبناء على هذه المفارقة اليقينية فإن على من حكى الإجماع على صحة المسعى في المسعى القديم قبل التوسعة الحادثة، وكلاهما هو بشكل خط مستقيم: أن يقول أيضاً بعدم صحة سعي الساعين قبل توسعة الملك سعود؛ لأنه كان منحرفا.
ولغيره أن يحكي الإجماع على عدم صحة السعي الحادث بخط مستقيم منذ عهد الملك سعود بناء على صحة السعي القديم المنحرف.
وبناء على تحصيل الإجماعات بهذه الطريقة فإنه يمكن لكل أحد أن ينقض بإجماعه إجماع من قبله، ثم هو إجماعه منقوض بمن جاء بعده.
وهذا باطلٌ ولا يقول به أحد، وإنما نكشف به لوازم من استدل بحكاية الإجماع العملي لصحة سعي الناس على إبطال غيره، فنفيده بأن هناك إجماعات عملية أخرى في المسعى قبل توسعة الملك سعود يختلف فيها بعض الشيء عن المسعى بعده، فأبطل بإجماعك إجماعهم، أو بإجماعهم إجماعَك.
والحق الذي لا ريب فيه هو العمل بكل هذه الإجماعات، وألا نضرب بعضها ببعض، وأن الأمر فيها سعة، وأن الشارع أمر بالسعي بين الصفا والمروة، وكل هذه الإجماعات العملية مندرجة في هذا الأمر، وأن الانحراف اليسير لا يؤثر ما دام أنه ساعٍ بين الجبلين؛ فإن من انحرف عن الجبل قليلا لا يقال عنه: إنه ليس بإزائه.
وإن الانحراف الذي وقع في بعض الأزمنة من دخول إلى المسعى إلى المسجد الحرام لا يؤثر أيضا في صحة المسعى؛ لأن صاحبه مع هذا الانحراف لا يكون خارجاً عن حدود المسعى في التطواف بين الجبلين.
وقل مثل ذلك في الانحراف الذي كان واقعاً قبل توسعة الملك سعود [كما أفاده المعلمي، وكما هو في بعض الصور القديمة]، ولا أستبعد أن يكون الانحراف هو الأصل لاسيما مع طول مسافة السعي، وما يكتنفه من بيوتات ودور، وما يعترضه من وادي لا يقطع إلا شدا، ناهيك عن تضاريس مكة الجبلية التي لا تخلو في العادة من التواء.
5 - يقول المعلمي:
"إن الله تبارك وتعالى وضع البيت ولم يكن فيما حوله حق لأحد، ثم جعل له حمى واسعا وهو الحرم، وكله من اختصاص البيت، تقام فيه مصالحه غير انه أذن للناس أن يضعوا أيدهم على ما زاد عن مصالح البيت وينتفعوا به، على أن مصالح البيت لو احتاجت يوما ما إلى شيء مما بأيدي الناس من الحرم أخذ منهم، ووفيت به مصالح البيت، وما بين الصفا والمروة من اختصاصهما، ليجعل منه مسعى يسعى فيه بينهما، فإذا جعل بعضه مسعى صار مسعى يصح السعي فيه، وبقي الباقي صالحا لأن يزاد في المسعى عند الحاجة فما زيد فيه صار منه. ()
6 - يقول المعلمي أيضاً:
"الكعبة هي الشعيرة في الأصل شرع الطواف بها والعكوف عندها والصلاة، وهذه الأمور لا بد لها من موضع فهو ما حولها، فالموضع كالوسيلة ليكون فيه الطواف بالكعبة وغيره، وهكذا الصفا والمروة هما الشعيرتان بنص القرآن، فأما ما بينهما فهو بمنزلة الوسيلة ليسعى فيه بينهما، والوسائل تحتمل أن يزاد فيها بحسب ما هي وسيلة له، كطواف الطائفين وسعي الساعين، ولا تجب أن تحدد تحديد المشاعر نفسها."
قلت: وفي ما ذكرته، وفيما نقلته عن المعلمي ينحل إشكال القطبي حينما قال:
(وهَا هُنَا إشْكَالٌ عَظِيمٌ مَا رَأَيْت من تَعَرَّضَ لَهُ، وهُوَ: أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ التي أوجبها الله تعالى علينا فِي ذَلِكَ الْمَحل الْمَخْصُوصِ، ولا يجوز لنا العدول عنه. ولا تعتبر هذه العبادة إلا في هذا المكان المخصوص، الذي سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعَلَى مَا ذَكَرَ هؤلاء الثِّقَاتُ:
أُدْخِلَ ذَلِكَ الْمَسْعَى فِي الْمسجد الشَّرِيفِ وَحُوِّلَ ذَلِكَ الْمَسْعَى إلَى دَارِ ابْنِ عَبَّادٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وأما المكان الذي يسعى فيه الآن فلا يتحقق أنه بعض من المسعى الذي سعى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره، فكيف يصح السعي فيه؟ وقد حوّل عن محله كما ذكر هؤلاء الثقات؟)
وإن كان قد أجاب عنه:
بأن المسعى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عريضاً، وبنيت تلك الدور بعد ذلك في عرض المسعى القديم، فهدمها المهدي، وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يحول تحويلاً كلياً، وإلا لأنكره علماء الدين من الأئمة المجتهدين. ()
قلت: ما ذكره هي طريقة في الجواب، لكن الأدق من الناحية التاريخية أن الأمر لم يكن كذلك، وأن الأسلم في الجواب ما سبق أن قررناه في مواضع، لاسيما ما نقلناه عن المعلمي.
¥