تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

صدّر الله جلّ وعلا الآية الكريمة بلفظة (ثمّ) إشارة لبعد رتبة هذه الأمّة عن رتبة غيرها من الأمم، وقد أعطيت من الفضائل والحسنات ما لم يعط أحد قبلها، منها هذا القرآن المنزّل على نبيّها صلوات الله وسلامه عليه، وقد عبّر عنه بلفظ (أورثنا) أي ملّكنا بفضلنا ملكا تامّا وأعطينا عطاء لا رجوع فيه، وعبّر في غير هذه الآية عن اليهود الذين لم يقوموا بحقّ الكتاب بقوله: ?فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكِتَابَ? [الأعراف: 169] فانظر فرق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين.

والمراد بالتوريث هنا الإعطاء ووجه تسميته ميراثا أنّ الميراث يحصل للوارث بلا تعب ولا نصب، وكذلك إعطاء الكتاب حاصل بلا تعب ولا نصب، وقد جمع الله الظالِم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات في هذه الآية وبشّرهم بالدخول إلى جنّاته بسبب توريثهم هذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم، والعاقّ والبارّ في الميراث سواء.

وهذا الكتاب الموروث يحتمل أن يكون القرآن المنَزّل على نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الجامع لكلّ كتاب أنزله الله، ويحتمل أن يكون معناه الكتب التي أنزلت من قبل القرآن كما رجّحه الطبريّ، والجمع بين القولين ممكن، لأنّ الله تعالى لَمّا أعطى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وهو قد تضمّن معاني الكتب المنَزّلة فكأنّه ورثّها الكتاب الذي كان في الأمم قبلها، ولهذا قال تعالى: ?وَالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ? [فاطر: 31]، فكلّ كتاب أنزل قبل القرآن إلاّ وأمر بالعمل به عند نزوله وباتّباع من جاء به وأنزل عليه.

فيكون معنى إيراث الكتاب أنّه تعالى نزع الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذه الأمّة على الوجه الذي رضيه لها، وهذا الإيراث حاصل لمجموع الأمّة وليس مختصّا بالعلماء أو حفظة القرآن وإن كانوا أغبطَ الناس بهذه النعمة وأولاهم بهذه الرحمة، بل كلّ من آمن بالقرآن وبأحكامه وعمل به واهتدى بنوره ولو لم يحفظ إلاّ الفاتحة، فإنّ الصحابة لم يكن كلّ واحد منهم يحفظ جميع القرآن وهم بلا شكّ من المصطفين الأخيار.

ثمّ قال تعالى: ?اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا? والاصطفاء الاختيار، واشتقاقه من الصفو وهو الخلوص من شوائب الكدر، وعامّة ما عليه أهل تفسير على أنّ المصطفين هم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم القيامة، لأنّ توريث الكتاب لم يكن إلاّ لهذه الأمّة، وغيرها ممّن سبقها لم يرثوه.

ولَمّا اختلفت أحوال الوارثين لهذا الكتاب من هذه الأمّة لتفاضلهم في العلم والإيمان والهمم قسمهم الله تعالى إلى ثلاث مراتب مقدّما الأدنى ومنتهيا بالأعلى فبدأ بالظالم لنفسه وثنى بالمقتصد وختم بالسابق.

وقد كثرت أقوال المفسّرين وتضاربت في تحديد المراد بهذه الأقسام الثلاثة الذين اصطفاهم الله حتّى جاوزت الأربعين قولا، وهذا الاختلاف لا يؤثّر في المعنى المراد لأنّه ليس باختلاف تضادّ، وإنّما هو اختلاف تنوّع يرجع إلى أصل واحد ويسقى بماء واحد، ولذلك كان معنى الظالم لنفسه في هذه الآية من يطيع الله ولكنّه يعصيه أيضا فهو الذي قال الله فيه: ?خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ? [التوبة: 102]، وهؤلاء أكثر الأمّة، والمقتصد هو الذي يطيع الله ولا يعصيه، أي المؤدّي للفرائض المجتنب للمحارم، ولكنّه لا يتقرّب إليه بالنوافل من الطاعات، والثالث السابق بالخيرات وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرّمات ويتقرّب إلى ربّه بنوافل الطاعات والقربات، وهذا على أصحّ الأقوال في تفسير الظالم لنفسه والمقتصد والسابق، ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم، ثمّ وعد الجميع بجنّات عدن ? وهو تعالى لا يخلف الميعاد ? في قوله: ?جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا? والواو في (يدخلونا) شاملةً للظالم والمقتصد والسابق على التحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم حُقَّ لهذه الواو أن تكتب بماء العينين.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير