ومما يدل على أن الجهاد فرض كفاية المعنى الذي شرع له، وهو إعلاء كلمة الله، فإذا قامت به طائفة من المسلمين حتى تحقق هذا المعنى فعلت كلمة الله في الأرض، وقُهِ أعداء الإسلام المحاربون له بتلك الطائفة، فقد حصل المقصود الذي شرع له الجهاد، فلا محل لجعله فرض عين على كل المسلمين كالصلاة مثلا.
تنبيه مهم
وهنا لا بد من التنبيه على معنى فرض الكفاية الذي لا يفهم فقهه كثير من الناس، ولو فقهه المسلمون حق الفقه، لكان للجهاد في هذا العصر شأن آخر، غير ما أصيب به المسلمون من ذلة وصغار في كل أنحاء الأرض.
ففرض الكفاية الذي يسقط عن الأمة بقيام طائفة به، هو أن تكون تلك الطائفة كافية في القيام به، وليس المراد مجرد قيام طائفة مجاهدة ولو لم يكن جهادها كافيا، فلا يصح إسقاط الجهاد عن الأمة الإسلامية كلهم بقيام طائفة منهم في جزء من الأرض، ولو كانت كافية في ذلك الجزء، مع بقاء أجزاء أخرى ترتفع فيها راية الكفر، فإن كل جزء من تلك الأجزاء يجب على المسلمين القريبين منه أن يجاهدوا – ما داموا قادرين - من حارب الله ورسوله وعباده المؤمنين ووقفوا عقبة لصد الناس عن الدعوة إلى الله حتى يقهروهم، فإذا لم يقدروا على قهرهم، وجب على من يليهم من المسلمين أن ينفروا معهم، وهكذا حتى تحصل الكفاية. ولهذا فال في حاشية ابن عابدين: " وغياك أن تتوهم أن فرضيته (الجهاد) تسقط عن أهل الهند بقيام أهل الروم مثلا، بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية، فلو لم تقع إلا بكل الناس فرض عينا، كصلاة وصوم "
قلت: والذي يتأمل أحوال المسلمين مع أعداء الله المحاربين للإسلام، يجد أن الجهاد اليوم فرض عين على كل قادر عليه من أفراد المسلمين، وليس فرض كفاية، لأن بعض طوائف المسلمين التي تقوم بالجهاد ضد عدوان الكفار على أرضها وعرضها ومقدساتها في عقر دارها لا تكفي لقهر عدوها، بل العدو هو الذي يقهرها، بل ينصر العدو عليها من يدعي الإسلام، وما قضية المسلمين في فلسطين بخافية على المسلمين!!!
راجع في تفسير الآيات الكتب الآتية: الجامع لأحكام القرآن [3/ 293] جامع البيان عن تأويل آي القرآن [11/ 70] التفسير الكبير للرازي [11/ 9]
وراجع في كتب الفقه: المبسوط [10/ 3] والمغني لابن قدامة [9/ 196] وبدائع الصنائع [9/ 4300] وتكملة المجموع للعقبي [18/ 47] وحاشية ابن عابدين [4/ 124)
(6)
القول الثاني في حكم الجهاد أنه فرض عين.
وهو رأي سعيد بن المسيب رحمه الله، وبه قال بعض الشافعية، وذكره ابن قدامة في المغني ورد عليه، وذكره ابن رشد عن عبد الله بن الحسن واستدل هؤلاء بأدلة فرض الجهاد المطلقة، وقد ذكر كثير منها في القول الأول من الكتاب والسنة، ومضى ذكر ما عارضها من النصوص الدالة على أنه فرض كفاية، وبهذا يعلم أن القول الأول هو الراجح، والله أعلم.
==========
مراجع هذا القول: فتح القدير لابن الهمام (5/ 439) المغني لابن قدامة (9/ 196)
حواشي تحفة المحتاج (9/ 439) بداية المجتهد (1/ 396)
(7)
القول الثالث: أن الجهاد مندوب.
أي إن الجهاد في سبيل الله، ليس واجبا عينا ولا كفاية، ونقل هذا القول عن ابن عمر وعطاء والثوري وابن شبرمة رحمهم الله.
ويفهم من عبارات بعض العلماء أنهم قد يحتجون بدخول التخصيص على النصوص العامة التي تدل على وجوب الجهاد، لأن النص إذا دخله التخصيص، يصبح ظني الدلالة فيضعف الاحتجاج به على الوجوب، فيبقى على الندب.
ولكن هذا الاستدلال في غاية الضعف، لأن العام إذا دخله التخصيص عند أهل الأصول قصر تخصيصه على بعض أفراده …وقد حمل بعض العلماء مراد ابن عمر ومن ذكر معه على أنهم أرادوا أن الجهاد ليس بفرض عين، وغنما هو فرض كفاية، فإذا قامت به طائفة كافية أصبح في حق غيرها مندوبا.
¥