ولهذا قال الجصاص رحمه الله (في أحكام القرآن (3/ 114): " ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو (قلت فكيف والمسلمون اليوم يعتدى عليهم في داخل منازلهم ومساجدهم؟؟!!) ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذرا ريهم، أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذرا ريهم، ولكن موضع الخلاف بينهم أنه متى ما كان بإزاء العدو مقاومين له، ولا يخافون غلبة العدو عليهم، هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية؟ فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمر بن دينار وابن شبرمة أنه جائز للإمام والمسلمين أن لا يغزوهم، وأن يقعدوا عنهم. وقال آخرون: على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية. "
قلت: وحمل قول هؤلاء – إذا صح عنهم – على هذا الوجه متعين، وإلا فلا وجه له، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك، غير الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وإذا لم تكن نصوص القرآن والسنة الواردة في فريضة الجهاد، وإجماع الأمة الإسلامية على مضمونها، والواقع التاريخي لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، إذا لم تكن كافية في الدلالة على أن الجهاد في سبيل الله فريضة، فأي فريضة بعد ذلك ستثبت بنصوص هي أقل من نصوص الجهاد عددا، وأضعف دلالة؟! وعلى هذا فالقول بأن الجهاد مندوب وليس بفرض عين ولا كفاية قول ساقط لا يجوز التعويل عليه …
وينبغي أن يعلم أن هذا الخلاف إنما هو في الجهاد بمعناه الخاص، وهو قتال الكفار، والراجح فيه ما مضى من أنه فرض كفاية.
أما الجهاد بمعناه الشامل الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه فرض عين في الجملة ن بمعنى أن المسلم لا يخلو في وقت من الأوقات من جهاد واجب عليه، إذ ليس الجهاد مقصورا على قتال الكفار، بل يشمل جهاد النفس والهوى والشيطان، وجهاد الأسرة لاستقامتهم على طاعة الله، وجهاد كثير من المسلمين الذين لا يلتزمون بطاعة الله بدعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم أمور دينهم، وجهاد ولي الأمر بنصحه وإرشاده، وكلمة الحق عنده، وإعداد العدة لجهاد العدو الكافر.
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم – زاد المعاد (2/ 65) " ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرما، ثم مأذونا فيه، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين، إما فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور ,
والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع ".
ولعل هذا المعنى الذي أشار إليه ابن القيم يفهم من قوله تعالى) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (الحج [78]
فقوله:) جاهدوا في الله حق جهاده (ثم أمره بعد ذلك بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله، يدل على شمول الجهاد لكل ما كلفه الله عباده.
وختاما أيها الأخوة الأحباب نرجو من الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال وأن يجعل باطننا خير من ظاهرنا وأن يصلح فساد قلوبنا ويثبت قلوبنا علي دينه وملة نبيه محمد وأصحابه الغر الميامين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام علي المرسلين
أخوكم في الله أبو المقداد السلفي (أبو عاصم)