من المهمات عند الخلاف الفقهي خاصة تحرير محل النزاع، وتحديد مجاله، وضبط صور المسائل، ذلك " لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد يقال: الحكم على الشيء ردا وقبولا فرع عن كونه معقولا " كما قال محمد الخضر الجكني الشنقيطي المالكي رحمه الله في كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري 1/ 113.
يقول ابن عاصم المالكي رحمه الله في مرتقى الوصول إلى علم الأصول:
أول ما تدركه تصور **** وعنه تصديق له تأخر
فأول إدراك معنى مفرد **** والثان الإدراك لحكم مسند
وهذا التصور للمسائل يعرف عند الأصوليين بالمقدمة العقلية أو بتحقيق المناط العام الذي قال عنه الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله:" لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله " الموافقات 4/ 95.
وبمراعاة ذلك يسلم المتفقه عموما من الوقوع في المتشابه كما قال الشاطبي المالكي رحمه الله:" .. كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه " الموافقات 5/ 341.
قال الشاطبي المالكي رحمه الله في هذا الصدد:" وكلام الناس هنا كثير وحاصله معرفة مواقع الخلاف 8 لا حفظ مجرد الخلاف " الموافقات 4/ 162.
وقد أدى هذا الطرح للفقهيات في بابه إلى ما يسمى عند أهل الشأن بـ " التعليل بالخلاف "مطلقا وهو ممنوع كما قال الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله:" الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله " جامع بيان العلم 2/ 89.
وقد قرر هذا كذلك الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله حيث قال:" وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر".
إلى أن قال رحمه الله:" وهذا عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا، وما ليس بحجة حجة " الموافقات 4/ 141.
ومنه يتبين الخطأ الذي جرى عليه عمل بعض المشتغلين بالعلم من إيراد مسائل الخلاف وحكايتها وسرد الأقوال فيها ونسبتها إلى أصحابها، وربما ذكر أدلة كل قول دون تحقيق لذلك مع أن المقام يستوجبه، ومن غير بيان للراجح من المرجوح والقوي من الضعيف على أن نوع ذاك الخلاف يتعين فيه ذلك.
وقال كذلك رحمه الله:" كل شيء أفتى فيه مجتهد فخرجت فتياه على خلاف الإجماع، أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس، ولا يفتي به في دين الله " الفرق 78 من كتابه الفروق.
إذن طرح الأقوال الضعيفة متعين قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله في معرض الكلام عن أناس ينتسبون إلى مذهب مالك رحمه الله:" صار التقليد ديدنهم، والإقتداء بغيتهم، فكلما جاء أحد من المشرق بعلم، دفعوا في صدره، وحقروا من أمره، إلا أن يستتر عندهم بالمالكية، ويجعل ما عنده من علوم على رسم التبعية ... فإن ظهر عندهم من له معرفة، أوجاءهم بفائدة في الدين وطريقة من سلف الصالحين، وسرد لهم البراهين، غمزوا جانبه وقبحوا عجائبه، وعيبوا حقه استكبارا وعتوا، وجحدوا علمه وقد استيقنته أنفسهم ظلما وعلوا، وسعوا في إخمال ذكره، وتحقير قدره، وافتعلوا عليه، وردوا كل عظيمة إليه" العواصم من القواصم 366 – 369، طبعة عمار الطالبي 11.
ـ[أبو يوسف المالكي]ــــــــ[27 - 02 - 10, 11:58 ص]ـ
بوركتما أيها الفاضلان المازري وإبراهيم.