[مجالات الإصلاح في الفقه الإسلامي]
ـ[أبو عبد الله يربح]ــــــــ[20 - 11 - 09, 09:46 ص]ـ
[مجالات الإصلاح في الفقه الإسلامي]
للشيخ الدكتور عبد المجيد جمعة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد، فقد مرَّ الفقهُ الإسلاميُّ بمراحلَ عدَّةٍ، من أهمِّها عصرُ النُّبوَّةِ، حيث كان مصدرُ التَّشريعِ وقتئذٍ هو القرآنُ والسُّنَّةُ، وقد أمر تعالى المؤمنين أن يردُّوا كلَّ ما تنازعوا فيه من أمور الدِّين: دقِّه وجلِّه، جليِّه وخفيِّه إلى هذا المصدر فقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً? [النساء: 59]، والرَّدُّ إلى الله سبحانه هو الردُّ إلى كتابه، والردُّ إلى الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الرَّدُّ إليه نفسِه في حياته، وإلى سُنَّتِه بعد وفاتِه.
وكان الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المبلِّغ عن الله تعالى المبيِّن لشرعه، وقد قال تعالى: ?إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً? [النساء: 105]، وقد أمرنا تعالى بطاعته وتحكيمِه والتَّحاكمِ إليه فقال: ?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً? [النساء: 65]، فلا شرع إلاَّ ما شرعه اللهُ أو ما شرعه رسولُه.
ولمَّا كان القرآنُ والسُّنَّةُ هما المرجعُ الأساسيُّ للصَّحابة في جميع الأحكامِ والقضايا، لم يكنْ هناك مجالٌ للاختلافِ في المسائلِ الفقهيَّةِ على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولئن كان هناك خلافٌ بين الصَّحابة إذا وقع منهم اجتهادٌ في حَضْرَتِه أو غَيْبَتِه ـ كما هو واقع منهم في حوادثَ كثيرةٍ، ووقائعَ متعدِّدَةٍ، وهو الصَّحيح من مذاهبِ العلماءِ ـ فإنَّهم كانوا يرجعون إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَيُقِرُّ المصيبَ منهم، ويُنْكِرُ على المخطئِ، فسرعانَ ما يزول الخلافُ، ويَثْبُتُ الصَّوابُ.
ولم يفارقِ النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الحياة، ويودِّعْ أصحابَه، وينقطعِ الوحيُ، حتَّى كَمُلَ الدِّينُ، وتكامل بناءُ الشَّريعةِ، فقد بلَّغ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصح الأمَّةَ، وتركها على المحجَّة البيضاءِ، وحثَّها على التَّمسُّك بكتاب الله وسُنَّةِ رسولِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعده.
فأخذ الصَّحابةُ ـ رضي الله عنهم ـ بوصيَّة النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما عَهِدَهُ إليهم، وعَضُّوا على ذلك بالنَّواجِذِ والأضْرَاسِ، فعَلِمُوا التَّنزيلَ، وفَهِمُوا مرادَ الرَّسولِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعرفوا سُنَنَهُ، فحكَّموا النُّصوصَ وتحاكموا إليها، ووقَفُوا عند حدودِها، فإذا نزلتْ بهم نَازِلَةٌ، وعرفوا حكمَها في كتاب الله أو سنَّةِ رسولِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَلْتَفِتُوا إلى غيرِهِما، بل تركوا آراءَهم، ورجَعُوا عن أقوالِهم إذا رأَوْا أنَّها تخالفُ النَّصَّ.
وبعد أنِ اتَّسعتْ دائرةُ الإسلامِ عن طريق الفتوحاتِ الإسلاميَّةِ، وامتدَّ نفوذُها إلى ما وراء الجزيرة، ودخل كثيرٌ من الأُمَمِ في دين الله أفواجًا، واختلطَ العجمُ بالعربِ، واجهتْهُم وقائعُ عِدَّة، ونزلت بهم نوازلُ كثيرة، لا عَهْدَ لهم بها في عصر النُّبوَّةِ، فدعتِ الحاجةُ إلى معرفة أحكامِ تلك الحوادث الطَّارئةِ، ومعلومٌ أنَّ النُّصوصَ الشَّرعيَّةَ محدودةٌ، لم تَنُصَّ على كلِّ الحوادثِ، فكان من الضَّروريِّ أن يجتهدوا في إيجادِ حلٍّ لهذه النَّوازلِ، وينظرُوا إلى أقربِ ذلك من النُّصوص العامَّةِ، فيُخرِّجوا أحكامَ هذه الحوادثِ الجزئيَّةِ على القواعدِ الكلِّيَّةِ المقرَّرَةِ في الكتاب والسُّنَّةِ، فإنْ أعوزَهم ذلك استشاروا فقهاءَ الصَّحابةِ، فإذا اتَّفق رأيُهم على شيءٍ قضوا به، ولَزِمَ تنفيذُه، كما وقع لأبي بكرٍ الصِّدِّيقِ ـ رضي الله عنه ـ في
¥